عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Jul-2025

تحولات العمل الحزبي (1): حين يصبح الحزب دولة*د. محمد العايدي

 الغد

إن تحوّل الأحزاب الأيديولوجية ذات المرجعية الدينية – كأحزاب التيار الإسلامي السني أو الشيعي – إلى كيان يتصرف كـ «دولة» موازية، تمارس سلطتها وتشرع لنفسها، وترى في مشروعها بديلا عن الدولة أو ندا لها، هنا تبرز الإشكالية بين الدولة وهذه الأحزاب الدينية، وهنا لا بد من إجراءات قانونية لكبح جماح هذه الأحزاب باعتبارها مشروعا موازيا للدولة في الخفاء، وإن كان يمارس نشاطه في العلن كأحد الأحزاب الوطنية.
 
 
في التجربة السياسية الحديثة، لا سيّما في العالم العربي، لم تكن بعض التيارات الإسلامية- السنية أو الشيعية- مجرد فاعل حزبي ضمن إطار التعددية السياسية، بل تمارس وجودها على أنها كيان شامل، متجاوز لحدود الدولة، ومتماهٍ مع ولاءاته الدينية الممتدة التي لا تؤمن بالحدود، ولا تعترف بشرعية الدولة الوطنية إلا بقدر ما تخدم مشروعها الديني أو المذهبي.
 
إن بعض أحزاب التيارات الإسلامية -الشيعية أو السنية- لا تنتظر الوصول إلى السلطة لكي تمارس سلطة الدولة، بل تصنعها داخلها، فتحاول تنظم المجتمع ليكون تابعاً لها في قراراتها وتصوراتها، وتربي الأفراد على الولاء لها، وتبني هيكلة الجماعة بطريقة الولاء للقيادة، وتصدر الأحكام بعيداً عن مراعاة قانون الدولة ومصالحها، وتتحرك على الأرض وكأنها دولة داخل الدولة، وفي خطاباتهم يتم التقليل من شأن الدولة الوطنية واعتبارها «طارئة»، مقابل مشروعها، وفي الواقع يمارس الحزب أشكالًا من السلطوية السياسية والثقافية والاجتماعية وأحيانا العسكرية، بحيث يجعل من الانتماء إليه شرطا للانخراط فيه، ومن مخالفته نوعا من «الزيغ»، والخيانة.
إن أخطر ما في هذا التحول هو أدلجة التنظيمات وإعطاؤها بعداً دينياً بحيث تضفي عليه قداسة الأحكام والتصرفات، وتنقلها من العمل في الحقل الدعوي إلى النشاط الحزبي السياسي، الذي يتعارض في أهدافه ووسائله وخطابه وآلياته مع النشاط الدعوي، فيتحول الدين إلى منظومة مغلقة من الشعارات والأوامر والمواقف الحزبية، ويصبح الحزب هو الممثل الوحيد «للحق»، ويسعى إلى اختزال الدولة في الحزب، ويقيس المواقف السياسية بميزان «الولاء التنظيمي»، لا بميزان المصلحة الوطنية العامة أو الاجتهاد الحر.
هذه هي آفة العمل الحزبي في تيارات الإسلام السياسي، فهي ليست مجرد اجتهاد إسلامي في السياسة، بل تعد نفسها كبديل شامل عن الدولة، لأنها تأخذ شمولية الدعوة وتسقطها على العمل الحزبي، وتتعامل مع المجتمع كأتباع، ومع السلطة كخصم لا كشريك في مصلحة وطنية مشتركة.
فأحزاب تيار الإسلام السياسي، لا ترضى بأن تكون مجرد حزب سياسي له محدداته وبرنامجه الإصلاحي ضمن أطر الدولة وسياستها، بل ينشئ مدارسه، وجامعاته، وصحفه، ونقاباته، وجمعياته الخيرية، ومراكزه الدعوية، وتراسانته العسكرية أحياناً، ويعيد صياغة المجتمع داخل هياكله، فهو يبني « دولته الخاصة «داخل الدولة، ويتعامل معها كإطار سياسي ناقص ينتظر التصحيح الكامل عبر استلام «حزب الحق أوالفرقة الناجية» لزمام الأمور.
وحين يسعى الحزب للسلطة، لا يذهب إليها باعتباره فاعلًا سياسيًا يعترف بالآخر، بل كصاحب «حق أصلي» ينتظر التمكين، وحين يُعارض لا تُفهم المعارضة بوصفها منافسة ديمقراطية، بل صراعًا بين «الحق والباطل»، و»الإيمان والنفاق».
تكمن الإشكالية الفلسفية العميقة في أن الدولة الحديثة، في وعي هذه التيارات هي «كائن ناقص الشرعية»، لا يملك حق التشريع، ولا المرجعية، ولا السيادة الحقيقية، لذا فإن أحزاب التيارات الإسلامية لا تنخرط في الدولة، لأنها تعتبر نفسها فوقها، وتسعى لأن تخضع الدولة لها، حتى وإن كانت خارج منظومة الحكم، إنها تمارس من الخارج سلطة معنوية موازية، وقد تملك نفوذا اجتماعيا يفوق أحيانا نفوذ الدولة نفسها، وفي هذا الإطار، يصبح الولاء التنظيمي بديلا عن الهوية الوطنية، وتُختزل الأمة في «الصف الحزبي»، ويُختزل الإسلام في فهم الجماعة وتوجيهاتها.
إن تحوّل الحزب إلى دولة، حتى دون أن يحكم، يُفرغ الدولة من مضمونها، ويُفرغ الدين من معناه، فنحن لسنا أمام جماعة دعوية تتعاطى السياسة، بل أمام كيان شبيه بالدولة، يستخدم الدين ليشرعن وجوده، وينازع الدولة سلطتها في التشريع، والتربية، والتوجيه.
خاتما..
فالمطلوب أن نعيد للدين مكانته كقيمة روحية وثقافية فوق الصراع السياسي، وأن نُخضع العمل الحزبي لمبادئ التعددية وقبول الآخر، لا لمنطق «التمكين المطلق» فحين يصبح الحزب دولة، يكون قد خسر روحه، وضيّع الوطن، وأدخل الدين في دوامة التوظيف والاحتكار، والواجب علينا أن نستعيد سلطة الدولة، قبل أن نستعيد المشروع.