عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Dec-2025

كيريالايسون*مالك العثامنة

 الغد

في كل موسم أعياد ميلاد، تتكرر الحكاية نفسها تقريبا، لا بوصفها حادثة عابرة، بل كاختبار صغير لمعنى الدولة، استفزاز على صيغة منشورات توزع في الشارع، وعبارات تحمل قدرا من الإيذاء الرمزي، تُقدَّم تحت مسمى التوعية وهي تشويه، وتُغلَّف بلغة أخلاقية ناعمة، لكنها في الجوهر تعيد طرح سؤال قديم: من يملك الفضاء العام؟ الدولة أم الأفراد؟
 
 
المشكلة هنا ليست في اختلاف ديني، ولا في جدل لاهوتي، ولا حتى في حساسية موسمية، المشكلة أعمق وأبسط في آن واحد، إنها في الخلط المتعمد بين التدين كخيار شخصي، والتديّن حين يتحول إلى أداة ضبط اجتماعي خارج القانون، فالدولة لا تُدار بالنوايا الحسنة، ولا بمنطق «أنا أنصح»، الدولة تُدار بالقواعد، والمسطرة الوحيدة فيها هي المواطنة، والمواطنة هنا هي الشجرة الوحيدة التي تربط بين الكل، والمقطوع عنها هو فقط من يريد قطعها.
والمواطنة تعني أن من حق أي مواطن أن يحتفل، ومن حق أي مواطن ألا يحتفل، لكن لا يملك أي مواطن، أيا كانت خلفيته، حق مصادرة الفضاء العام أو فرض وصاية أخلاقية على غيره، فالشارع ليس منبرا، والساحة العامة ليست لوحة إعلانات دعوية، والهوية الوطنية لا تُختزل بتعريف ديني واحد، مهما بدا هذا التعريف مألوفا لدى أصحابه.
ولنفترض، فقط افتراضا عقليا، كمثال مقابل: ماذا لو قرر مواطن – أي مواطن مهما كان معتقده-، أن يطلق حملة توعية في موسم عيد الأضحى، تتحدث عن مشاهد الدماء الفوضوية، وعن الأرصفة التي تُلطخ بالمخلفات، وعن الشوارع التي تتحول إلى مسالخ مفتوحة، وعن الأذى الصحي والنفسي والبصري الذي يتعرض له الناس، أطفالا وكبارا، وماذا لو طُبعت منشورات، ووُزعت في الأحياء، تحت عنوان الحفاظ على الذوق العام أو احتراما للمكان.
هل كان هؤلاء "المتوترون" سيعتبرون ذلك توعية بريئة وحقا شرعيا لأي مواطن، أم كان سيتحول فورا إلى استفزاز، وإساءة، وربما مساس بالسلم الاجتماعي؟
هنا بالضبط تظهر الدولة، فالدولة "المتعافية بالمؤسسات والقانون" ليست طرفا في هذه المقارنات، بل هي الحكم الذي يمنع وقوعها، وهي لا تنتظر أن يرد طرف على طرف، بل تقطع الطريق على الجميع، لأن الفضاء العام ليس ساحة ردود فعل، بل مساحة منظمة بالقانون، وأي تردد في هذا الدور لا يُقرأ تسامحا، بل فراغا.
ولهذا، فإن تدخل السلطات باسم الدولة، والدولة هنا هي نحن جميعا، لم يعد خيارا يمكن تأجيله أو التعامل معه بمرونة مفرطة، بل صار ضرورة حتمية، فالتراخي أمام هذه السلوكيات يوسع الرَّتْقَ، ويُفقِد الدولة سيطرتها المعنوية قبل الإجرائية، ويمنح قوى العتمة فرصة ذهبية لاستهداف كل ثغرة ممكنة، صغيرة كانت أم هامشية، لتحويلها إلى مدخل أوسع للفوضى الرمزية والتفكك الصامت.
الدولة وُجدت أصلا لتبعد الناس عن بعضهم حين تشتد غرائز الوصاية، لا لتقرّبهم قسرا إلى تعريف واحد للإيمان، فالدولة وُجدت لتحمي حق الاختلاف، لا لتقيس صدق النوايا، ولا لتمنح أحدا حق الحديث باسم السماء في الشارع.
وحين تضيق المسطرة، ويُختصر الوطن في تعريف واحد، ويتحول الخوف من الآخر إلى فعل يومي صغير، تصبح تلك المواطنة هي الضحية الصامتة، ويصبح الفضاء العام مكانا قابلا للكسر، لا للاحتواء، وعندها لا يبقى أمام الدولة، ولا أمام المجتمع، إلا أن يتذكرا المعنى الأعمق للرحمة، لا بوصفها شعارا، بل بوصفها أساس العيش المشترك، لذا نردد مع المؤمنين جميعا: كيريالايسون - يا رب ارحم.
وكل عام وإنسانيتنا ثم مواطنتنا بخير.