المدن -
جاء الموفد الأميركي الى لبنان السيد طوم باراك مرة ثالثة . كالعادة حظيت زيارته باهتمام إعلامي وسياسي كبيرين. وعلى الطريقة اللبنانية تفسيرات للمواقف والتصريحات كلّ من منطلق خلفياته وأهوائه وتمنياته. لدى خروجه من اللقاء مع رئيس الجمهورية العماد جوزف عون لم يصرّح. صرّح بعد لقائه رئيس الحكومة نواف سلام. فرح كثيرون واعتبروا أنه أكثر تشدداً من المرة السابقة. ثم ذهب إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري وهناك المحطة الأساس نظراً لمكانة الرجل على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي بتمثيله للطائفة الشيعية الكريمة وخصوصية العلاقة معها نظراً لأن الموضوع الأساس يتعلق بـِ " سلاح حزب الله ". باراك أشاد مرة جديدة بالرئيس بري معتبراً أن " اللقاء معه كان ممتازاً " وأطلق تصريحات عدة بعد لقاءاته الواسعة التي شملت عدداً كبيراً من النواب والوزراء والإعلاميين وبعض المرجعيات. لم يخرج الرجل عن طلب تسليم السلاح واستعجال العملية " لأن ثمة متغيرات كثيرة في المنطقة " " وما جرى في سوريا فاجأنا " كما قال مكرراً كلام رئيسه السيد ترامب. وهنا ملاحظتان، الأولى: الأولوية لموضوع سوريا. والثانية: لا تفوتوا الفرصة أيها اللبنانيون. وفي ذلك كلام واقعي ودقيق. في الملاحظة الأولى: مباشرة بعد مغادرته إلى باريس عقد لقاء أميركي – اسرائيلي – سوري لإعادة الأمور إلى مسارها الأول بعد التمادي الإسرائيلي في ضرب مقر الأركان السورية والقصر الجمهوري والاستباحة في كل اتجاه والتدخل المباشر في السويداء. وفي معزل عن نتائج هذا الاجتماع فالواضح أن ثمة توجهاً دولياً عربياً لا يزال ثابتاً وتجدّد تأكيده في الأيام الماضية بدعم الدولة السورية بقيادة أحمد الشرع، مع التشديد على مسؤوليتها في معاقبة الذين ارتبكوا الفظائع بحق أبناء السويداء ومحاسبتهم ورد فعل هؤلاء عليهم. وهذا أمر طبيعي لكي تمارس الدولة سلطاتها كاملة على أرضها وتطمئن مواطنيها وتعاملهم بعدالة. وبالتوازي قررت أميركا إبقاء قانون قيصر قائماً مع إعطاء مهلة سنتين للإدارة الجديدة لتثبيت وضعها والوفاء بالتزاماتها. وهذا ليس مربوطاً فقط بأمن السويداء خصوصاً أن إسرائيل لا تزال تصرّ على منطقة أمنية منزوعة السلاح في الجنوب وعلى تأكيد زعمها حماية الدروز في حين أن مشروعها الحقيقي جعل سوريا منزوعة عناصر القوة بالكامل، والذهاب من السويداء إلى المناطق الكردية وغيرها تحت عنوان " حماية الأقليات "، عرقية كانت أم مذهبية أم طائفية أم عشائرية، وهذا يهدّد سوريا ودول الجوار كلّها من تركيا إلى الأردن ودول الخليج والعراق ومصر، ولم تتخلَّ عن هذا المشروع وتريد أن تنفذه في سوريا بدماء السوريين، وخصوصاً الدروز كما تفعل بدماء الفلسطينيين واللبنانيين .
المملكة العربية السعودية بادرت إلى إرسال وفد اقتصادي استثماري رفيع المستوى لتوقيع اتفاقيات مع الحكومة السورية وإطلاق مشاريع استثمارية كبرى بلغت قيمة المرحلة الأولى منها: 6 مليارات دولار أميركي. وثمة دول أخرى ستشارك وعلى رأسها تركيا التي تريد تعزيز موقع الشرع وشرعية سلطته. وبعد الاجتماع الأميركي – السوري – الإسرائيلي عقد اجتماع فرنسي – سوري وحدث اتصال بين الرئيسين ماكرون والشرع، وتأكيد " مواجهة الإرهاب " وهذه نقطة أساسية مهمة. إذ إن أميركا ومنذ بداية علاقاتها مع الشرع، كانت تصرّ على ضرورة التخلّص من " العناصر الإرهابية " عندما برزت فكرة ضم مقاتلي الفصائل الداعمة للشرع إلى الجيش. اليوم الأمور تتبلور أكثر. أميركا وفرنسا ودول الخليج لا تقبل وجود هذه العناصر وبالتالي سيكون تعاون كل من جهته وتبادل معلومات وتنسيق للتخلص منهم. الإدارة السورية هنا أمام امتحان كبير على مستوى مستقبل العلاقات مع إسرائيل، وأيضاً ترتيب الوضع الداخلي. ونحن في بداية طريق سيكون محفوفاً بكثير من المخاطر والقلق والتحديات والكلفة. نظرياً أمام هذه التطورات خرج الشيخ موفق طريف بعد لقاء مع نتانياهو ببيان " يدعو إلى الحفاظ على النسيج الوطني السوري الموحّد ". غريب. إذا كان الأمر كذلك فلماذا كانت " الفزعة السياسية والإعلامية " ضد الزعيم الوطني وليد جنبلاط الذي ومنذ بداية الثورة السورية ضد نظام الأسد كان يدعو الدروز إلى المحافظة على العلاقات الأخوية مع البدو والسنّة والمكونات السورية في المنطقة حرصاً على وحدة سوريا ورفض تقسيمها .
ومع انتهاء اجتماعات باريس أكد نتانياهو ووزير دفاعه يسرائيل كاتس " أن اسرائيل مصرّة على شروطها لناحية المنطقة المنزوعة السلاح ولا بد من ترتيبات مع سوريا. إضافة إلى تمسّكها بحماية الدروز ". لا شيء تغير أو سيتغير. هذه هي إسرائيل في الأساس التي صدمت ترامب بقصفها مقر رئاسة الأركان والقصر الجمهوري وتصعيدها في سوريا والمكافأة كانت إطلاق يدها في غزة .
بالعودة إلى لبنان، ربط باراك في تحذيراته بين ما يجري في سوريا من سرعة تحرّك وتقدّم في الخطوات لترسيخ الاستقرار والتلكؤ الحاصل في لبنان، محملاً مسؤولية ذلك إلى الدولة اللبنانية إذ قال: " أنا لست مفاوضاً. أنا هنا لأساعد. مسألة سلاح حزب الله هي مسألة لبنانية. بالنسبة إلينا هو إرهابي يجب التخلّص من قبضة يده على لبنان ". وأضاف: " المسؤولون يقومون بعمل جيد ونحرز تقدماً!! والرئيس بري يقوم بكل مقدوره. وما جرى في السويداء أعطى ذريعة محقة لحزب الله لكن لا بد من الاستمرار في العمل والحوار كي لا تكون خسائر " !!
في المعلومات عن الاجتماع مع الرئيس بري لم تكن الأجواء سلبية كما قال بعضهم استناداً إلى تمنياته. الحوار جدي. الكل متمسك بالوصول إلى آلية لتنفيذ الاتفاق وخصوصاً بري. والرئيس عون ذهب ليعلن أنه يدير الحوار شخصياً مع حزب الله للوصول إلى اتفاق. وكان تأكيد أن لا أحد يتحدث عن مهل مفتوحة. القرار ببسط سلطة الدولة على أراضيها وحصر السلاح بها والوصول إلى خطة عملية بهذا الخصوص متخذ ونهائي. كل ما طلبه هو الوقوف أمام الانتهاكات الإسرائيلية. إسرائيل لم تنفذ كلمة من اتفاق وقف الأعمال العدائية وتستمر في حربها واستباحتها وقتلها وإجرامها. ذهبوا لمعالجة ما جرى في السويداء وهذا مهم واستمر الضغط على لبنان والسيد باراك صرح أمس: " إن مصداقية الحكومة اللبنانية تعتمد على قدرتها على التوفيق بين المبدأ والممارسة، وكما قال قادتها مراراً وتكراراً فمن الأهمية بمكان أن تحتكر الدولة السلاح، وما دام حزب الله محتفظاً بسلاحه فإن التصريحات لن تكون كافية " .
قبل وصوله الى بيروت كان رئيس المخابرات البريطانية MI6 قد سبقه اليها . التقى بعض المسؤولين وفي سياق الحديث عن دور اسرائيل ونتانياهو تحديداً قال الرجل : " نتانياهو يعيش على الفوضى " . والموقف البريطاني هنا واضح من خلال التصريحات والخطوات التي أعلنها مسؤولون بريطانيون . ونقل كلام آخر عن مسؤول دولي : " نتانياهو يعيش على الحرب " . من يخرج لبنان وغزة والمنطقة من الحرب والفوضى ما دامت الأمور تقف عند نتانياهو بتأكيد أميركي غربي وفي مكان ما : إن لاسرائيل حق الدفاع عن نفسها ؟؟
نحن في لبنان مطالبون بالخروج من الشعبويات والحسابات الضيقة الصغيرة ومحاولات حشر بعضنا بعضاً والتذاكي واستخدام القضايا الكبرى المصيرية في لعبة الانتخابات وتصفية الحسابات . لا ينقذ البلد ويحميه إلا وحدة الموقف الوطني . صحيح أن تصريحات ومواقف مسؤولين في حزب الله في مجملها لا تساعد على تحقيق هذه الوحدة ويتجاوز بعضها الواقع ويجب إدارة الأمور بطريقة مختلفة والتميّز بحسن التقدير والتدبير في هذه المرحلة . وفي الوقت ذاته لماذا لا يضغط الوسطاء والمفاوضون على اسرائيل لتنفيذ خطوات معينة طلبها المسؤولون اللبنانيون ليبنى على الشيئ مقتضاه وليتحمّل كل طرف المسؤولية أمام اللبنانيين ؟؟