عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Oct-2025

مبادرة خليفات وتوجهات الداخلية: نحو توازن اجتماعي جديد*حسن الدعجة

 الغد

في المشهد الأردني الراهن، تتجاور على أرض الفعل الاجتماعي والسياسي رؤيتان كبيرتان تبدوان في الظاهر مختلفتين، لكنهما تلتقيان في الجوهر حول غاية واحدة هي تعزيز استقرار الدولة وترسيخ قيم الانتماء الوطني. فمن جهة، برزت مبادرة الدكتور عوض خليفات بوصفها مشروعًا ينهض على البنية العشائرية، ساعيًا إلى تعبئة الطاقات الاجتماعية وإعادة توجيهها نحو خدمة الدولة والوحدة الوطنية. هذه المبادرة تراهن على قوة النسيج العشائري كمنظومة تضامن وقيم، وتعمل على توظيف العادات والتقاليد العشائرية في سياق وطني جامع يعيد للعشيرة دورها الإيجابي في الحفاظ على تماسك المجتمع ودعم القيادة الهاشمية.
 
 
ومن جهة أخرى، تتحرك وزارة الداخلية من خلال توجيهاتها ومبادراتها الأخيرة لضبط العادات والممارسات العشائرية التي تجاوزت أحيانًا الأطر المقبولة اجتماعيًا. وتأتي تلك الجهود في إطار ما تسميه الدولة؛ تنظيم الأعراف، لا محوها، وذلك عبر الحدّ من بعض الممارسات التي تسببت في أعباء أو تجاوزات، مثل اتساع مظاهر الجلوة، والإفراط في الجاهات، والولائم، وعدد الحضور في المناسبات. والغاية، وفق رؤية الوزارة، هي الحفاظ على الأمن الاجتماعي والتخفيف من الضغوط الاقتصادية، وضمان العدالة بين المواطنين دون الإخلال بالتقاليد الأصيلة.
هذا التوازي بين المشروعين يفتح الباب أمام سؤال مركزي: هل نحن أمام صدامٍ بين مشروع عشائري يسعى لإحياء الذات من الداخل، ومشروع رسمي يسعى للضبط من الخارج؟ أم أن المسافة بينهما قابلة للتحويل إلى مساحة تكامل تُنتج نموذجًا وطنيًا جديدًا لإدارة العادات والتقاليد؟
حين يصرّح الشيخ زايد السميران المساعيد بأن "في دولتنا الأردنية يسودها العرف والعادات والتقاليد"، فإنه يعبّر عن وعي عميق بخصوصية البنية الاجتماعية الأردنية التي تأسست تاريخيًا على قيم العرف والوجاهة والتكافل. لكن هذا القول في الوقت ذاته يفتح النقاش حول الحدود الدقيقة بين ما يجب الحفاظ عليه من تلك الأعراف بوصفه هويةً وطنيةً متوارثة، وما ينبغي تعديله أو ترشيده عندما يتحول إلى عبء على الدولة والمجتمع.
 فمن الواضح أن المبادرة العشائرية ومشروع الوزارة يشتركان في الغاية العامة المتمثلة في حماية المجتمع، وإن اختلفت أدوات كل منهما. فمبادرة خليفات تسعى إلى تحفيز الوعي الذاتي داخل العشائر لتكون شريكًا إيجابيًا في الإصلاح وتعزيز الولاء للقيادة الهاشمية والانتماء للوطن، بينما تنطلق الوزارة من موقعها المؤسسي لتقنين الظواهر وتنظيمها بقوة القانون. وهنا تحديدًا يمكن أن يتحول الاختلاف في الوسائل إلى مساحة سوء فهم إن لم تُدار العلاقة بحكمة.
قد يرى بعض وجهاء العشائر في تدخل الدولة المباشر مساسًا بما يعتبرونه شأنًا داخليًا خالصًا، بينما قد ترى الجهات الرسمية في التمسك غير المنضبط بالعادات تهديدًا للأمن أو عبئًا اقتصاديًا على الناس. وإذا لم تتقاطع الرؤيتان ضمن حوارٍ منفتح، فقد ينشأ شعور متبادل بالتحفّظ أو الغموض، يتحول تدريجيًا إلى صراعٍ صامتٍ بين السلطة التقليدية والسلطة المؤسسية.
لكن في المقابل، فإن فرص التكامل بين المبادرتين تبدو كبيرة إذا ما أُحسن توظيفها. فالمبادرة العشائرية تمتلك شرعية مجتمعية لا تملكها الدولة أحيانًا في الأوساط المحلية، والدولة تمتلك أدوات التشريع والتنفيذ التي لا يمكن لأي مبادرة أهلية أن تحلّ محلها. والتكامل بين هاتين المبادرتين؛ الاجتماعية والإدارية، يمكن أن يشكل نموذجًا متوازنًا لإدارة التحولات في البنية الاجتماعية الأردنية.
التحدي الأكبر يكمن في إدارة الإيقاع بين الطرفين، فالدولة تميل بطبيعتها إلى القرارات السريعة التي تضمن التطبيق العام، بينما تحتاج البنية العشائرية إلى زمنٍ أطول لتستوعب التغيير عبر الإقناع والقدوة، وإذا فرضت الدولة التغيير بسرعة تفوق قابلية المجتمع العشائري على التكيّف، فستُقابَل القرارات بالرفض أو الالتفاف. أما إذا تُرك الأمر للعادات دون ضابط، فسيُعاد إنتاج الإشكالات القديمة نفسها. ومن هنا تأتي الحاجة إلى نهج تدريجي تشاركي يسمح بالانتقال من مرحلة العرف المفتوح إلى العرف المنظَّم، دون كسر التوازن بين السلطة والهوية.
من الأفكار العملية التي يمكن أن تشكل أرضية للتفاهم، صياغة ميثاق وطني عشائري يُتفق فيه على المبادئ العامة التي تنظّم الأعراف، وتُمنح من خلاله كل عشيرة أو منطقة مساحة من المرونة تراعي خصوصيتها ما دامت لا تتعارض مع المصلحة الوطنية. كما يمكن تبنّي برامج توعوية وإعلامية تُقدِّم فكرة الإصلاح على أنها حماية للتقاليد لا تهديدا لها، وتؤكد أن الدولة لا تسعى إلى نزع هوية العشيرة بل إلى صونها ضمن إطار العدالة والنظام العام.
كذلك يمكن أن تسهم المبادرة العشائرية في تهيئة المجتمع لتقبّل التغييرات عبر الحوار الداخلي واللقاءات الميدانية، بما يخفف من حدة التوجس تجاه قرارات الوزارة. فالتغيير لا ينجح بفرضه من الأعلى فقط، بل بمساندة قنوات المجتمع ذات التأثير الشعبي.
إن نجاح الدولة في إدارة هذه المعادلة الدقيقة سيعزز مناعة المجتمع الأردني ويُعيد إنتاج العلاقة بين الدولة والعشيرة على أسس حديثة، تُبقي على روح التراث وتُخضع الممارسات للمنطق النظام. فالعشيرة ليست نقيض الدولة، بل أحد مكوّناتها التاريخية، والدولة ليست خصم الأعراف، بل ضامن بقائها في حدود المصلحة العامة.
إن مبادرة الدكتور عوض خليفات تمثل طاقة تعبئة وطنية يمكن أن تكون رافعة لسياسات الدولة لا منافسة لها، إذا جرى التنسيق بين الفكرتين. وفي المقابل، فإن وزارة الداخلية مدعوة إلى إشراك القيادات العشائرية في كل خطوة إصلاحية، لأن أي إصلاح اجتماعي لا يكتمل إلا بمشاركة أصحاب المصلحة الحقيقيين. وبين المبادرتين، يكمن مستقبل التوازن بين الأصالة والمعاصرة، بين القانون والعرف، وبين الدولة والمجتمع.
فإذا أُحسن استثمار هذا التوازي بروح الشراكة، يمكن للأردن أن يقدم نموذجًا فريدًا في العالم العربي لإدارة التقاليد ضمن دولة القانون. أما إذا تُرك التوازي لينقلب إلى تناقض، فإننا نكون قد خسرنا فرصة ثمينة لتوحيد الإرادة الوطنية تحت مظلة واحدة، يكون فيها القانون والعرف جناحين متكاملين في حماية الوطن وهويته.