عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    03-Jun-2025

الصحافة في سوريا ما بعد الأسد: حرّية وفوضى وقيود متجدّدة

 درج-

هذا البلد الممنوع عن الصحافة سوى تلك التي تُحابي حكم آل الأسد، شهد انقلاباً هائلاً بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وتدفّقاً غير مسبوق للصحافة الغربية والعربية، وتسارعت عجلة الأخبار مدعومة بآلاف التقارير المكتوبة والمصوّرة والمقالات والمقابلات.
 
“أحياناً يُفرض وجود مرافق من الأمن العامّ، بحجّة “أسباب أمنية”، ونتيجة لذلك يمتنع الناس عن الحديث معنا بحرّية، ويُمنع أحياناً الحديث مع بعض الأشخاص”، تقول صحافية فرنسية تغطّي الشأن السوري لـ”درج” عن طبيعة التعقيدات التي تواجهها خلال عملها. الصحافية فضّلت عدم الكشف عن اسمها، وربطت الأمر بقلقها من احتمال عرقلة دخولها أو تغطيتها إن تحدّثت باسمها الصريح علناً.
 
الأمر نفسه أكّده الصحافي السوري سامر (اسم مستعار) عن شعوره بالارتباك جرّاء المتابعة اللصيقة، التي تمارسها الأجهزة الأمنية التابعة للإدارة السورية: “أحياناً يجلسون بجوارنا في المطعم، ويراقبوننا بصمت. لا يريدون تكرار إرث الأسد علناً، لكنهم يواصلون مراقبتك، ما يجعلك تشعر بعدم الارتياح”.
 
ليس بلا دلالة اختيار عدد من الصحافيين والصحافيات الذين قابلناهم نشر إجاباتهم بأسماء مستعارة، فعدم الرغبة في التحدّث علناً، مؤشّر على تصاعد الحذر والارتياب، ودليل على تخبّط أهل المهنة في تعاملهم مع حدث معقّد كالحدث السوري.
 
قيود بيروقراطية تُعيق عمل الصحافة
شهدت الصحافة السورية تحوّلاً كبيراً منذ سقوط الأسد. البلد كان معزولاً تقريباً عن العالم بفعل ديكتاتورية حزب “البعث” وحكم آل الأسد، التي أطبقت على المساحات العامّة، وتحديداً الصحافة، على نحو دفع بالسوريين في مطلع ثورتهم في عام  ٢٠١١ إلى تغطية احتجاجاتهم ضدّ قمع النظام وقتله لهم، بهواتفهم ووسائلهم الذاتية، بعد فرض حظر على الإعلام. 
 
هذا البلد الممنوع عن الصحافة سوى تلك التي تُحابي حكم آل الأسد، شهد انقلاباً هائلاً بعد سقوط النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، وتدفّقاً غير مسبوق للصحافة الغربية والعربية، وتسارعت عجلة الأخبار مدعومة بآلاف التقارير المكتوبة والمصوّرة والمقالات والمقابلات.
 
نظام الأسد كان من أكثر الأنظمة القمعية التي حاربت الصحافة وتحكّمت بالإعلام، في حين أظهرت الحكومة الجديدة مرونة أكبر، مؤكّدة مراراً دعم حرّية الصحافة والإعلام، وتجلّى هذا بمساحات نقاش محلّية ونقد لا يزال في غالبه عبر صفحات السوشيال ميديا، علماً أن الإعلام الرسمي لم يبدأ بالعمل سوى مؤخراً،  مع ذلك، لا تزال هناك عوائق على الأرض تواجه الصحافيين.
 
يواجه سامر، وهو صحافي يعمل مع مؤسّسة إعلامية عالمية، صعوبات مرتبطة بالتصريح الدوري المطلوب من وزارة الإعلام، وهو تصريح مدّته أسبوعان فقط، لا يشمل زيارة كلّ المناطق السورية، ويتطلّب إجراءات بيروقراطية مرهقة، كما أنه يقتصر على الأماكن العامّة، ما يؤدي إلى إهدار وقت الصحافيين وجهدهم.
 
تقول راما (اسم مستعار) وهي صحافية مستقلّة: “لكي أحصل على التصريح عليّ أن أُخبرهم بالتفصيل إلى أين سأذهب، ولماذا. بعض المواضيع، خصوصاً تلك المرتبطة بوزارات أو جهات حكومية، لا تفضّل السلطات تغطيتها، بخاصة مع الصحافيين المستقلين. كثيراً ما يُرفض طلب التصريح، أو يُفرض علينا الذهاب إلى مكان محدّد بدلاً من المكان الذي نريده، كما يصرّون على معرفة كلّ ما فعلته أحياناً، وحتى طلب إرسال اللقاءات”.
 
عند الحاجة لأي تصريح من مؤسّسة حكومية، يُحال الصحافي إلى مكتبها الإعلامي، الذي ينسّق المقابلات والمواعيد بعد طلب تفاصيل دقيقة للغاية. 
 
يروي سامر: “طلبت مقابلة مع مدير مديرية المياه في ريف دمشق، فجاء الرد: “أخبرنا أولاً بالمواضيع التي تنوي طرحها، وسنوجّه له الأسئلة، ثم نعود إليك بالإجابات، وإذا لم نعد، فلن تتمّ المقابلة أصلاً”، ويشرح “هذا يدفعنا كصحافيين إلى الاعتماد على علاقاتنا الشخصيّة، أو حتى تسلّق الأسطح مجازاً، للحصول على المعلومة”.
 
ومن القيود الأخرى، ضرورة الحصول على تصريح خاصّ لكلّ محافظة. فعلى سبيل المثال، عندما أراد سامر العمل في حمص أو السويداء لمتابعة عمليات القتل الطائفي التي حصلت هناك مؤخراً، طُلب منه مراجعة المكاتب الإعلامية هناك، وتعرّض لسيل من الأسئلة: لماذا؟ مع من ستعمل؟ كم يوماً ستبقى؟ ما الهدف؟ يقول سامر: “هذا ليس مجرّد تدقيق، بل إغراق في التفاصيل لإرباكنا”.
 
يعتقد بعض الصحافيين أن هذه السياسة مقصودة لتعطيل عملهم، بينما يرى آخرون أن الحكومة لا تزال تفتقر إلى الأدوات الكافية للتعامل مع الصحافة.
 
تبدو هذه الإجراءات البيروقراطية – برأي سامر وراما – طريقة غير مباشرة للتضييق، لكنّها تتحوّل إلى تضييق مباشر في أحيان كثيرة، إذ يقول سامر: “هناك مستويان: أولاً، بعض الوزارات السيادية لا تُتيح المقابلات أصلاً. ثانياً، بعد مجازر الساحل، ورغم فتح الطرقات لاحقاً، لم يُمنح أي تصريح للعمل في محافظات كطرطوس أو اللاذقية أو حتى في بلدات صغيرة كجبل بانياس”، ويضيف: “كان الأمن يتعقّبنا، لا يقولون لا تعملوا، لكنّهم يعطون إشارات مبطّنة مثل: لا تذهبوا إلى الشارع الفلاني، الوضع غير مستقرّ”.
 
ويتابع: “قالوا لنا: لا تذهبوا إلى تلك المنطقة لأن الفلول (أتباع الأسد المخلوع) موجودون هناك. كان يمرّ أحدهم كلّ نصف ساعة ليسألنا: ماذا تفعلون هنا؟، ما يخلق بيئة من التوتّر الدائم وعدم الأمان، وفي كثير من الحالات، طلبوا منا تجنّب أحياء أو شوارع معيّنة”.
 
ومع التعاون مع وسائل إعلام دولية كـ”نيويورك تايمز” أو “الغارديان”، تصرّ الحكومة السورية على وجود مرافق أمني دائم. يقول سامر: “يجلسون بجوارنا في المطعم، يراقبوننا بصمت. لا يريدون تكرار إرث الأسد علناً، لكنّهم يواصلون مراقبتك، ما يجعلك دائماً على حافّة القلق”.
 
هذه المضايقات لا تطال الصحافيين السوريين فقط، بل الصحافة الغربية أيضاً. تقول ماريا (اسم مستعار لصحافية فرنسية تعمل داخل سوريا): “كانت القيود المفروضة من وزارة الإعلام واضحة، خصوصاً خلال أعمال العنف في الساحل. فمنذ كانون الثاني/ يناير، ترفض وزارة الخارجية منح اعتماد للصحافيين الراغبين في السفر إلى الساحل من دون تقديم مبرّرات، ونتيجة لذلك، مُنع السفر رسمياً، رغم أن بعض الصحافيين تمكّنوا من التغطية. وزارة الخارجية أبلغتنا أن السفر إلى مدينة من دون اعتماد رسمي، قد يؤدّي لاحقاً إلى رفض تأشيرة دخول جديدة، وهو ما حدث فعلاً مع كثيرين بعد موجة العنف”.
 
وتضيف ماريا: “رابط طلب التأشيرات عبر الموقع الإلكتروني توقّف عن العمل بالتزامن مع أحداث الساحل، ما حال دون تغطية الكثير من الصحافيين”.
 
الحصول على مقابلات في بعض الوزارات صعب أيضاً، وغالباً ما يُواجه الصحافيون بمواعيد مؤجّلة من دون رفض صريح.
 
وتتابع ماريا: “يبدو أن السلطات، عبر وزارة الإعلام، تطّلع على الموادّ التي ننشرها، وتبني تعاملها لاحقاً على أساس مضمونها، لكن لم يمنعني أحد من النشر”.
 
صحافيون يتردّدون في إعلان طوائفهم
رغم تصريحات مسؤولي الحكومة مراراً بأنهم يحاربون الطائفية، تؤكّد راما أنه طُرح عليها مراراً سؤال: “من أين أنتِ؟”، وهو ما ترى فيه محاولة لمعرفة طائفتها أكثر من كونه سؤالاً عن مسقط رأسها. 
 
تقول: “هذا السؤال لم يكن يُطرح سابقاً بهذه الصيغة المباشرة. أشعر اليوم أن الهدف ليس التعارف، بل معرفة طائفتي. أحياناً أضطرّ لإخفاء بعض التفاصيل أو تغيير منطقتي الأصلية، لأنني أعرف أن هذا قد يؤثّر على مدى تعاون الشخص معي”.
 
التشهير: سلاح ضدّ الصحافيات
بات شائعاً مؤخراً حملات التشهير ضدّ الصحافيات والناشطات، التي يقودها في كثير من الأحيان إعلاميون مقرّبون من السلطة الجديدة. 
 
تقول راما: “لاحظت ظهور ما يشبه حرب فيسبوك، أو حرب على وسائل التواصل الاجتماعي، لم يكن هذا ظاهراً في مناطق النظام سابقاً، ربما لأن التعبير عن الرأي لم يكن مسموحاً أصلاً. الآن، صار الخوف ليس من الدولة فقط، بل من حملات التشهير هذه”.
 
وتتابع: “أنا من الأشخاص الذين صاروا يخشون التعبير عن آرائهم السياسية، أو حتى الإنسانية. أخشى التشهير أكثر من أي شيء، لأنه لا يأتي من باب النقد المهني، بل من باب السمعة، أو الشرف”.
 
الصحافيون الأجانب… امتيازات لا ينالها السوريون
أجمعت راما وماريا على أن الصحافة الأجنبية تحظى بمعاملة أفضل نسبياً. تقول ماريا: “لم أشعر يوماً بأنني في خطر كصحافية أجنبية في سوريا، بل العكس. أشعر أن وجودي يمنحني حماية وامتيازات لا يحظى بها الصحافيون السوريون. للأسف، سُجّلت عدّة حالات اعتداء على صحافيين سوريين”.
 
في المقابل، يشعر الصحافيون السوريون بأنهم عرضة للمضايقات فقط لأنهم سوريون. تروي راما حادثة جرت معها في حمص: “كنت أرافق صحافيين إيطاليين كمترجمة، حاولنا دخول أحياء علوية مغلقة أمنياً عبر السير في الأحياء السنّية لتجنّب الحواجز، أوقفنا مسؤول محلّي وبدأ بمساءلتنا بعدائية لأنه ظنّ أننا سوريون. اضطررت للتظاهر بأني إيطالية سورية لا أتحدّث العربية، باستخدام جواز زميلتي، حين صدّقوني، تغيّرت معاملتهم كلياً. علّمتني التجربة أن الهوّية قد تنقذ أو تودي بصاحبها، وما زلت أشعر بعدم الأمان في المناطق المتوتّرة”.