الدستور
وضع بنيامين نتنياهو نظام ولاية الفقيه (في إيران) أمام تحدٍّ مصيري، عبر الضربة الاستباقية القاسية التي وجهها له، التي وإن كانت على درجة كبيرة من الخطورة، لكنّها لم تكن كافية لحسم المواجهة، ولم يكن نتنياهو نفسه يتوقع بأنّ نظاماً أيديولوجياً قومياً كالنظام الإيراني يمكن أن يستسلم عبر تقديم تنازلات فورية بعد الضربة، من دون أن يوجّه ضربة مرتدة لإسرائيل.
بالرغم من الضربات القوية الإيرانية غير المسبوقة ضد تل أبيب؛ إلاّ أنّ الاتجاه الإصلاحي في إيران، ممثلاً بوزير الخارجية، عباس عراقجي، أظهروا أيضاً أنّهم يتمسكّون بـ»طاولة المفاوضات»، وبإيجاد مخرج لهذه الحرب، وقد تجنبت إيران استخدام القوة الصاروخية الكاملة لضرب إسرائيل، والوصول بالمعركة إلى مرحلة اللا رجعة.
تشير المعطيات الحالية إلى أنّ هذه الحرب، على الأغلب، لن تستمر طويلاً ولن تتمدد جغرافيا، لأنّ كلفة التدمير - الذي يحدث لدى كلا الطرفين- كبيرة جداً، سواء على صعيد إيران ومنشآتها النفطية التي تشكّل الشريان الرئيس لاقتصادها، وحماية ما تبقى من البرنامج النووي، والبنية التحتية، وبالنسبة لإسرائيل فإنّ نجاح إيران باختراق القبة الحديدية وتحقيق إصابات كبيرة ومباشرة في قلب تل أبيب وفي حيفا هو مشهد لا يستطيع الإسرائيليون التعايش معه.
في ضوء ذلك فإنّ هنالك نقطة ما Tipping Point سيكون الطرفان مستعدين عندها إلى إنهاء الصراع، ومن سيقرر هذه اللحظة هي الإدارة الأميركية، التي ستتدخل حينها لوضع حدّ لهذا التصعيد العسكري؛ لكن متى ستكون هذه اللحظة؟ عندما يقتنع الطرفان أنّهما لن يتمكنا من تحقيق مزيد من الأهداف، وأنّ كلفة الاستمرار في الصراع ستكون أكبر بكثير من التوقف؛ وأنّ ما يسمى «الضربة القاضية» غير ممكنة في مثل هذه الحروب المصيرية.
على الطرف الإسرائيلي فإنّ هنالك تفوقاً كبيراً من شقين؛ الأول يرتبط بسلاح الجو الإسرائيلي وامتياز تدمير أغلب نظام الدفاع الجوي الإيراني، وبالتالي العمل بحرية فوق سماء طهران وتدمير كل ما يستطيعون، والثاني «الاختراق الأمني» الذي قد يحمل مفاجآت أخرى كبيرة تجبر الإيرانيين على التراجع أو تقديم تنازلات لاحقة، لكن – في المقابل- فإنّ نقطة الضعف الكبيرة لإسرائيل تتمثّل في القدرة على التحمل لضربات صاروخية كبيرة وقاسية، غير مسبوقة، بخاصة بعد فترة طويلة من الصراع العسكري متعدد الجبهات.
أمّا بالنسبة لإيران فإنّ هنالك هدفين رئيسين في الصراع العسكري حاليا؛ الأول يتمثّل بالإمساك بالشرعية السياسية لنظام ولاية الفقيه، المبنية على الجانب العقائدي والدعائي، لأنّ عدم الرد والتراجع الحالي سينعكس إلى داخل الحالة الإيرانية، وعلى مصدر شرعية النظام نفسه، والثاني يتمثّل بحماية قدرة إيران على الردع وسمعتها الإقليمية من التدهور، بعدما خسرت الجزء الأكبر والأهم من نفوذها الإقليمي في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى.
التدخل الأميركي، عسكرياً أو دبلوماسياً، سيكون حاسماً، في وضع حدّ لهذا الصراع، ومن الواضح أنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يفضل المسار التفاوضي، والحصول على مكتسبات عسكرية وسياسية وأيضاً اقتصادية، بينما يراهن نتنياهو أنّ هزيمة عسكرية كبيرة لنظام ولاية الفقيه لن تقف عند حدود تقديم تنازلات مرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني، وهو الهدف المعلن والرئيس، بل أيضاً إلى تغيير بنية النظام أو إسقاطه وتحييده بدرجة كبيرة في اللعبة الإقليمية، مما يعني تغيراً جوهرياً واستراتيجياً في قواعد الأمن الإقليمي لصالح إسرائيل.
التدخل العسكري الأميركي المباشر مستبعد، إلاّ في حالتين؛ الأولى أن تستنجد إسرائيل بالولايات المتحدة في حال تعرضت لهجوم صاروخي ناجح كبير، والثانية إذا شعرت الولايات المتحدة أنّ إيران لن تتراجع إلاّ إذا حدث تحوّل أكبر في موازين القوى العسكرية يجبرها على القبول بالعودة إلى طاولة المفاوضات والموافقة على تقديم تنازلات كبيرة.
هذه المعطيات أو المعادلة لم تكن كذلك قبل عامين، عندما كان لدى إيران مساحة جغرافيا سياسية واسعة وأدوات كبيرة في المنطقة، وتمتلك نفوذاً كبيراً، لكن ما حدث مع نظام بشار الأسد (الكورودور السوري) وحزب الله وحماس، أفقد إيران ميزات مهمة في ميزان القوى الإقليمي، وستكون هنالك نتائج كبيرة غداة الحرب حتى على نفوذ إيران المتبقي في العراق، الذي سيكون الذراع الأخير الذي ستخسره طهران بعد عشرين عاماً (منذ احتلال العراق 2003) من العمل الدؤوب والمستمر على خياطة سجادة النفوذ الإيراني في المنطقة!