الغد
منذ بدء العدوان الهمجي على غزة، سجّل الأردن موقفًا تاريخيًا في مساندة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وقد قاد جلالة الملك هذا الموقف الذي عبر به عن ضمير الشعب والدولة معا، فلسطين والقدس بالنسبة للأردني ليستا مجرد قضية، بل هما جوهر هويته الوطنية، وهذه الهوية تحولت عبر التاريخ إلى عقيدة راسخة للدولة والشعب معًا، حتى أصبحت نصرة فلسطين وأهلها عمودًا من أعمدة ثوابت الأردن، وركنًا أساسيًا في سياسته الداخلية والخارجية. ورغم شحّ الإمكانات، قدّم الأردن ما يفوق طاقته دعمًا للفلسطينيين من جهة ولإدراكه لعمق الارتباط بين امن الأردن وتحقيق امان الشعب الفلسطيني.
دبلوماسيًا، قاد الملك عبد الله الثاني حملة سياسية مكثفة، زار خلالها عواصم أوروبا وأميركا حاملًا سردية واضحة: العدوان لم يبدأ في 7 أكتوبر، والمحتل لا يملك حق الدفاع الشرعي. هذه السردية استندت إليها أطراف عربية ودولية لتفنيد محاولات دولة الاحتلال بتبرير حرب الإبادة في غزة.
الأردن وطن عظيم، لكنه ليس دولة عظمى، ولكنه رغم ذلك يملك من القوة الأخلاقية والسياسية ما يجعل صوته مسموعًا ومؤثرًا في زمن إسكات أصوات الحق. والملك أوّل من أشار إلى فداحة المأساة، لأن كل الجهد المبذول لم يوقفها بعد. ومع ذلك، فإن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه.
موقف الأردن هذا لم يُقابل بالإنكار كما يُروّج البعض، بل يحظى بتقدير واسع من الفلسطينيين والعرب والأردنيين أنفسهم. أمّا محاولات التشكيك أو الإساءة فهي حالات شاذة لا تمثل المزاج العام، وزوبعة في فنجان لا يجوز أن تُشغلنا عن الهدف الأكبر. وهنا ينبغي الحذر من الخطاب العصبي الاتهامي الذي يسيء للمخالفين في الرأي؛ لأنه يقسّم الجبهة الداخلية ويُضعف قوتنا.
إدارة الدولة ليست كإدارة صفحة على مواقع التواصل؛ فحماية الدستور واستمرار الدولة مسؤولية مشتركة. ولا يخدم فلسطين مَن يسعى إلى نشر الفوضى أو زعزعة الاستقرار في الأردن، أياً كانت نواياه.
محليًا، وفي جهود نصرة غزة المادية والمعنوية، تماهى الموقف الرسمي مع الشعبي، وكما أكد جلالة الملك في لقائه الأخير مع الإعلاميين ضرورة احترام حق التعبير السلمي مهما اختلف شكله، إدراكًا لحق الناس في التعبير عن شعورهم بأن كل ما يُفعل لا يكفي. الشارع لم يكن حكرًا على تيار سياسي بعينه، ومنعه أو تقييده يبعث رسائل خاطئة. المطلوب أن تقود الدولة الشارع بحكمة وتوجّهه نحو الفعل الإيجابي المنظم، بدل تركه عرضة للتأثيرات أو الانفعالات.
ولا بد أن نتذكر أن الأردن يخوض اليوم معركة سياسية وإعلامية مفتوحة مع المشروع الصهيوني، وأن كثيرًا مما يجري على وسائل التواصل ليس بريئًا، بل تقف خلفه غرف عمليات ومنصات وشبكات، من بينها وحدات متخصصة مثل وحدة 8200 الإسرائيلية. وفي مواجهة هذه الحرب الالكترونية، يصبح تقبل الرأي المخالف السلمي ضرورة وطنية، فالانقسام أو التقسيم هو أجمل هدية يمكن أن نقدّمها لعدونا، وفي هذا المجال فإن ثقتنا بأنفسنا ووحدتنا هي السلاح الأول الذي لا يُقهر.
وهنا يبرز سؤال مشروع: أين دور أحزاب التحديث، والنقابات، وقادة الرأي في توجيه الشارع واحتضان الغضب الشعبي؟ لا يكفي أن يُعبَّر عن موقف الدولة عبر ضيوف الشاشات؛ بل نحتاج إلى قيادات مجتمعية في الشارع واعية وفاعلة تدعم التيار الشعبي الناضج وتترجمه إلى مبادرات ومواقف وطنية مؤثرة.
إعلام الدولة رصين، لكننا اليوم بحاجة إلى خطة وطنية لتقاسم الأدوار بين الدولة والمجتمع. دعم الشارع أولى من دعم الشاشات. الأردن قوي وصلب، وقد تجاوز الشدائد عبر تاريخه، وكل ما نحتاجه الآن هو جرعة من الثقة بالنفس والشفافية والوضوح ووحدة وطنية تتجلى بمشاركة حقيقية بين مؤسسات الدولة والشارع الأردني، وهذا هو التعريف الحقيقي لتماسك الجبهة الداخلية فعلًا لا شعارًا جنابك.