الدستور
في زحمة عصرنا المضطرب، حيث يُستبدل المعنى بالصوت المرتفع، ويُقدَّم الوميض على العمق، تترنح الحقيقة خلف ستار لامع يُدعى «المؤثر» والمؤثرين. لم يعد التأثير يُقاس بالفكرة أو القيمة أو المبدأ، بل أصبح محصورا في أرقام المتابعين، وتفاعل المشاركات، ومظهر الصورة المفلترة.
المؤثر اليوم، وفق معايير هذه المرحلة، لا يُطلب منه أن يوقظ الوعي، بل أن يُشعل الضجيج. لا يُنتظر منه أن يُرشد، بل أن يُشتت. تحول إلى كيان رقمي مصقول، يُقدَّم كوجبة سريعة تُلتهم على عجل، وتُنسى بلا أثر يُذكر. أثره الحقيقي ليس في الضمير الجمعي، بل في رفوف المتاجر، في نقرات الشراء، وفي سباق المقارنة الذي يزرع شعور النقص في النفوس.
مؤسسات كثيرة، سواء كانت حكومية أو تجارية، اختارت الطيران بجناح واحد: جناح الانتشار السريع. لكنها تناست أن كل تحليق بلا اتزان، مصيره السقوط. المؤثر الذي يُستأجر من أجل الترويج، لا يحمل رسالة، بل يحمل عقدا مؤقتا. صوته ليس عاما، بل إعلان صاخب يخبو سريعا. والأدهى أن كثيرا من الرسائل الجادة تضيع وسط هذا الصخب، فلا تجد طريقها.
الخطورة الحقيقية لا تكمن في الأفراد، بل في الثقافة التي تصنع نجوما رغويين. ثقافة تُبدل الجوهر بالسطح، وتُنصت لما يُسلي بدلا مما يُثري. ومع مرور الوقت، يتحول المجتمع إلى جمهور يجلس في مسرح عبثي، يراقب فقاعة تكبر وهو يدرك، في أعماقه، أنها على وشك الانفجار.
خلف الكواليس، يتحرك الخداع كأداة تسويق بارعة. منتج ضار يُقدَّم بقصة ملهمة. معايير جمال مستحيلة تُعرض كأهداف واقعية. حياة مزيفة تُباع كحقيقة قابلة للتكرار. كل هذا يحدث تحت شعار «التأثير»، بينما المتابعون يتآكلون بصمت: نفسيا، ووجدانيا، وأخلاقيا.
هل نبالغ؟ ربما. لكن أليس من حقنا أن نسأل: من يشكل ذائقتنا اليوم؟ من يغرس القيم في عقول أبنائنا؟ أهي المدرسة؟ أم الشاشة؟ أهو صوت المثقف؟ أم بريق التريند؟
التأثير الحقيقي لا يُشترى، ولا يُصنع بعدسة. هو نور ينبع من الداخل، لا من ومضة شاشة. وفي وسط هذا الوميض الرقمي المصطنع، نحتاج إلى ضوء صادق... فهل نملك الشجاعة لنُطفئ الأضواء كي نراه؟