الغد
داريل لي* - (مجلة تيارات يهودية) عدد صيف 2025
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
في أوائل السبعينيات، شنّ ياسر عرفات، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، هجومًا دبلوماسيًا في تلك اللحظة التي كانت قد أصبحت متقلبة. وأفضت الحملة التي تلت إلى سلسلة متسارعة من المكاسب القانونية في غضون سنوات قليلة. وكان أول تلك المكاسب هو الاعتراف واسع النطاق بالشعب الفلسطيني كأمة لها الحق في تقرير المصير، وهو ما تُوّج بقرار صدر في العام 1970 في "الجمعية العامة للأمم المتحدة". وبعد ذلك بفترة وجيزة، حصلت "منظمة التحرير الفلسطينية" على الاعتراف بها كممثل للشعب الفلسطيني، وعلى هذا الأساس أصبحت أول حركة تحرُّر وطني تُمنح صفة مراقب في الأمم المتحدة. وقد أتاح ذلك للفلسطينيين، بخلاف معظم الشعوب التي بلا دولة، صوتًا مؤسسيًا يتحدث باسمهم على المسرح العالمي. وفي العام 1974، دُعي عرفات لإلقاء كلمة في "الجمعية العامة للأمم المتحدة". وفي لحظة شكلت انتصارًا دبلوماسيًا كبيرًا، أعلن زعيم المنظمة -الذي قوطع خطابه مرارًا بالتصفيق من المندوبين الحاضرين- أنه جاء "حاملاً غصن الزيتون في يد وبندقية الثائر في يد"، موضحًا صراحةً أنه ما كان ليقف في هذا الموقف ويخاطب "الجمعية العامة" لولا الكفاح المسلح.
في السنوات التي تلت، واصلت "منظمة التحرير الفلسطينية" تحقيق مكاسب مهمة على الصعيد القانوني الدولي. في العام 1975، مررت "الجمعية العامة للأمم المتحدة" قرارًا تاريخيًا يعلن أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية. وحتى تلك اللحظة، كانت الأمم المتحدة تؤكد على حقوق الفلسطينيين بصيغ عامة من دون تسمية مضطهديهم؛ وجاء قرار تصنيف الصهيونية ليكرّس في نص قانوني تحليلًا مناهضًا للاستعمار بوضوح في مواجهة إسرائيل، وساعد على تمهيد الطريق لصدور بيانات لاحقة تصف الفلسطينيين كشعب في مواجهة استعمار. وفي وقت لاحق صدرت قرارات عن "الجمعية العامة"، كانت مضامينها "تعيد التأكيد على شرعية" حركات التحرر الوطني، بما فيها الحركة الفلسطينية، وحقها في خوض كفاحها "بالوسائل المتاحة كافة، بما فيها الكفاح المسلح". كل هذا كان حاسمًا في منع إسرائيل من تطبيع فتوحاتها بالكامل في المحافل الدولية. كما أتاح الإمكانية لنمو جهاز دبلوماسي فلسطيني واسع لديه مكاتب في مختلف أنحاء العالم، وسهّل تدفق الدعم من الدول المتعاطفة، بدءًا من الأسلحة الصينية، إلى المساعدات الطبية اليوغوسلافية، إلى المِنح الجامعية السوفياتية.
ربما كان التطور الأبرز في تلك الحقبة هو ما نتج عن مفاوضات متعددة الأطراف أجريت في جنيف لتحديث قوانين الحرب. وقد سُمح لـ"منظمة التحرير الفلسطينية" وحركات أخرى مناهضة للاستعمار بالمشاركة في الاجتماع الذي أسفر عن صدور البروتوكول الإضافي الأول لـ"اتفاقيات جنيف" في العام 1977؛ ودوَّن هذا البروتوكول العديد من قواعد الحرب التي أصبحت تُعتبر اليوم بديهية، بما فيها الحظر على استهداف المدنيين والهجمات العشوائية. ولم تكن "منظمة التحرير الفلسطينية" وحركات التحرر الوطني الأخرى مهتمة بالقواعد بحد ذاتها بقدر ما كانت مهتمة بتوسيع نطاق الامتيازات التي كانت حكرًا على جيوش الدول لتشمل الحركات "التي تقاتل ضد السيطرة الاستعمارية والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية في إطار ممارستها لحقها في تقرير المصير". ومع هزيمتهما الكبيرة في التصويت، عارضت إسرائيل والولايات المتحدة هذه الأفكار بقوة ورفضتا دعم البروتوكول، لكنّ ذلك لم يمنع من حصوله على قبول شبه شامل من المشاركين في الاجتماعات. (جاءت الولايات المتحدة زاحفة بطريقة غريبة بعد عقد لاحقًا، وقبلت بمضمون البروتوكول بشكل انتقائي، حيث أصدرت قائمة خاصة بمواده التي اعتبرتها ملزمة).
بالتدريج، حلّت الاستراتيجية الدبلوماسية والقانونية التي تبنتها "منظمة التحرير الفلسطينية" محل السياسة الجماهيرية، بما في ذلك الكفاح المسلح، وأفرغَت المنظمة أشرعة الحركة الوطنية الفلسطينية من الريح لعقود تالية. حتى في الوقت الذي انتزعت فيه اعترافًا أصيلًا وغير مسبوق بشرعية العنف المناهض للاستعمار، رأت قيادة المنظمة بشكل متزايد أنّ تحقيق مكاسب قانونية ودبلوماسية إضافية سيتطلب النأي بالنفس عن أي استراتيجية عسكرية. وكانت القيادة قد شرعت مُسبقًا في السير في هذا الاتجاه منذ وقت مبكر هو العام 1974. في ذلك العام، شاهد ياسر عرفات انخراط مصر في مفاوضات مع إسرائيل بوساطة أميركية. وبينما استشعر مسارًا يتشكّل نحو التطبيع العربي - الإسرائيلي، والذي سيكون من شأنه أن يخرج الدولة العربية الأقوى من المواجهة مع الصهيونية، ردّ بمبادرة دبلوماسية في شكل "برنامج النقاط العشر"، (1) الذي حافظ على هدف المنظمة المعلن المتمثل في استبدال إسرائيل بدولة ديمقراطية علمانية، لكنه اقترح تحقيق ذلك بشكل مرحلي.
فجّر الاقتراح جدلًا واسعًا داخل المنظمة، وخاصة من ثاني أكبر فصيل فيها، "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ذات التوجه الماركسي - اللينيني، التي رأت في النهج المرحلي قبولًا ضمنيًا بالتسوية مع الصهيونية من خلال التقسيم، وإشارة إلى أن عرفات سيتخلى عن الكفاح المسلح من دون تحقيق التحرير. وبعد الخطاب الذي ألقاه عرفات في الأمم المتحدة، ذكّر أحد منشورات "الجبهة الشعبية" القراء بأنّ "الكفاح المسلح كان السبب الرئيسي في هذا النجاح الدبلوماسي. ومن هنا نؤكد أنه لا بد من التمسك بهذه الوسيلة نفسها من أجل تقدم وتطوير حركة المقاومة الفلسطينية". وقد أثبت تحذير الجبهة الشعبية دقته لاحقًا. خلال عقد واحد فقط، أتاح تطبيع العلاقات مع مصر لإسرائيل أن تغزو لبنان بقدر أقل بكثير من الخشية من إشعال حرب عربية - إسرائيلية أوسع، وهو ما أدى في النهاية إلى إزالة المصدر الرئيسي لضغط "منظمة التحرير الفلسطينية" العسكري على إسرائيل وإلى تقويض ثورة المخيمات الفلسطينية.
مع تفكك الحركة الوطنية الفلسطينية وتمزقها خلال الثمانينيات، عكفت "منظمة التحرير الفلسطينية" على اعتناق استراتيجية قانونية لم تتمكّن -حتى بينما تزامنت مع التعبئة الشعبية- من البناء على زخم هذه التحركات. في العام 1987، اندلعت الانتفاضة الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة، متجلية في شكل تعبئة جماهيرية وإضرابات مطوّلة، ومؤذنة بتحوّل مركز ثقل السياسة الفلسطينية من مخيمات اللاجئين في الدول العربية إلى أجزاء فلسطين التي احتلت في العام 1967. وفي البداية، حققت الانتفاضة نجاحًا ملحوظًا في الضغط على الكيان الإسرائيلي بالنظر إلى اعتماده الكبير على العمالة الفلسطينية والمستهلكين الفلسطينيين. وقد استثمرت قيادة "منظمة التحرير" في المنفى في زخم الانتفاضة لتعزيز سعيها إلى تعزيز الاعتراف القانوني الدولي، فأعلنت في العام 1988 قيام "دولة فلسطين" بحدود غير محددة. (شكّل التلميح الإيجابي في الإعلان إلى "قرار التقسيم" الذي صدر عن الأمم المتحدة في العام 1947 إشارة إلى استعداد المنظمة المحتمل للتسوية مع إسرائيل).
مع ذلك، تمكنت إسرائيل من التكيف مع الضغوط التي شكلتها الانتفاضة تدريجيًا بتقليص اعتمادها على اليد العاملة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، وبعد أن فقدت المنظمة رافعتها العسكرية في ميدان المعركة، لم ينتج عن مساعيها المحمومة واليائسة لدفع إسرائيل إلى طاولة المفاوضات سوى المزيد من التنازلات. في كانون الأول (ديسمبر) 1991، قبلت المنظمة بإلغاء قرار الأمم المتحدة الذي يصف الصهيونية بأنها شكل من أشكال العنصرية، في مقابل مشاركة إسرائيل في المحادثات الدبلوماسية في مدريد. لكن جلسات المفاوضات أثبتت كونها فاشلة بالنسبة للفلسطينيين، بينما حصدت إسرائيل ثمار مشاركتها الفاترة، حيث أتاحت لها أخيرًا إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع كل من الصين والهند؛ أكبر دولتين في العالم واللتين كانتا حليفتين منذ وقت طويل لـ"منظمة التحرير الفلسطينية".
كان ما فعلته "اتفاقيات أوسلو" التي توّجت كل تلك السنوات من المفاوضات، هو أنها كرّست فقط ابتعاد "منظمة التحرير الفلسطينية" عن الكفاح المناهض للاستعمار. وقد أسفر الاتفاق عن إنشاء كيان مؤقت هو "السلطة الوطنية الفلسطينية" (بما يعكس رفض إسرائيل تطلعاتها إلى الدولة)، التي قبلت بدور أشبه بـ"المقاول الأمني" لدى إسرائيل في أراضي العام 1967. وجعل هذا الواقع القادة الفلسطينيين مسؤولين عن قمع النشاط الثوري في المستقبل، الأمر الذي لم يفعل سوى ضمان فقدان شرعيتهم في نظر الشعب الذي ادّعوا تمثيله. ونتيجة لذلك، بحلول الوقت الذي اندلعت فيه الانتفاضة الثانية -التي مالت إلى العنف بخلاف الأولى التي اعتمدت على التعبئة الجماهيرية- كانت تنازلات السلطة الفلسطينية في "أوسلو" قد ضمنت بقاء الحركة محصورة في أعمال عسكرية فردية (وخاصة العمليات الاستشهادية أو "التفجيرات الانتحارية") بدلًا من وجود استراتيجية لمقاومة مسلحة منظمة تقودها هيئة تمثيلية كما كان الحال في السبعينيات.
بعد الانتفاضة الأولى، ومع انفصال السلطة الفلسطينية عن أي استراتيجية قانونية فعّالة، برز جيل جديد من منظمات المجتمع المدني الفلسطيني لتعمل كفاعلين مهمين في مجال النشاط الإنساني والدفاع الدوليين لصالح فلسطين. ومن بين هذه المنظمات منظمة "الحق"، و"المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان" (حيث عملتُ في أوائل الألفية الثانية)، و"مركز الميزان لحقوق الإنسان"، و"الضمير". وقد سعت هذه المنظمات جميعًا إلى تفعيل آليات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي التي توسعت بعد الحرب الباردة، لمحاسبة إسرائيل على معاملتها للفلسطينيين الخاضعين لحكمها، وقدّمت شهادات لهيئات الأمم المتحدة المختلفة حول الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي، وضغطت على الحكومات (خصوصًا الأوروبية منها) لممارسة الضغط على إسرائيل، وساعدت في رفع قضايا أمام محاكم وطنية ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين. وجاءت ذروة هذه الحقبة من العمل القانوني الدولي في العام 2004، عندما التقت تحالفات "منظمة التحرير الفلسطينية" في الأمم المتحدة مع الخبرة القانونية للمنظمات غير الحكومية القانونية لتجلب نصرًا قانونيًا مدويًا في "محكمة العدل الدولية"، والذي تمثل في صدور رأي استشاري يعلن أن جدار الفصل الذي كانت إسرائيل تبنيه في الضفة الغربية غير قانوني، ويجبرها على إجراء تعديلات طفيفة على مساره. وقد أكد الرأي، بسلطة قانونية راسخة، مواقف واسعة الانتشار في المجتمع الدولي، ترى أن سلوك إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة يخضع فعليًا للقانون المتعلق بالاحتلال (وهو الموقف الذي قاومته إسرائيل طويلًا، حتى مع اعتمادها على القانون ذاته حين يناسبها ذلك)، وأن المستوطنات اليهودية في تلك الأراضي تنتهك القانون الدولي.
مع ذلك، شكّل ذلك الحكم في نهاية المطاف نصرًا تقنيًا ضيقًا أكثر من كونه نصرًا سياسيًا: فبمعارضته لمسار الجدار فقط لا لوجوده نفسه، عززت المحكمة فكرة أن الجدار قد يكون "ضروريًا" لخدمة أهداف إسرائيل الأمنية "المشروعة" المفترضة. وعلى الرغم من أن الرأي أسهم في تحفيز "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات" (BDS)، التي بدأت كدعوة لتنفيذ القرار، إلا أن هذه الحركة التضامنية ذات التوجه الخارجي لم تساعد في تعزيز التعبئة داخل المجتمع الفلسطيني نفسه. وفي النهاية، لم تتمكن الاستراتيجية القانونية لمؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية من تجاوز واقع غياب النضال الوطني.
على مدى العقد التالي بعد ذلك، فشلت القيادة الفلسطينية في توفير أداة مناسبة للتحرر الوطني، وتمسكت بدلًا من ذلك باستراتيجية تقوم على المناورات الدبلوماسية. في العام 2011، أطلقت "السلطة الفلسطينية" حملة يائسة للحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة -حتى أنها وضعت كرسيًا عملاقًا باللون الأزرق للأمم المتحدة في وسط رام الله للتعبير عن إلحاح ملء المقعد الفلسطيني في المنظمة الدولية- وهي خطوة أصبحت على نطاق واسع رمزًا للسخرية من نهج القيادة الأعرض. ولم يكن مفاجئًا أن مثل هذه العروض الدعائية الفارغة لم تحقق شيئًا: مع تهديد الـ"فيتو" الأميركي، اكتفت "السلطة الفلسطينية" بقبول ترقية صفتها من "مراقب" إلى "دولة مراقب غير عضو". وقد سمح إدخال كلمة "دولة" لفلسطين بالانضمام إلى معاهدات وإلى بعض وكالات الأمم المتحدة، بما فيها "المحكمة الجنائية الدولية"، لكنها ظلت غير قادرة على التصويت. وبعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أصبحت محددات هذه الاستراتيجية وقيودها أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. في نيسان (أبريل) 2024، خسرت "السلطة الفلسطينية" محاولة جديدة للحصول على العضوية الكاملة بعد (فيتو) أميركي متوقع تمامًا، وهو ما أوحى بأنه حتى التعبئة العالمية المتواصلة ضد الإبادة في غزة لم تستطع أن تستخرج أفكارًا جديدة من الحرس الفلسطيني القديم، أو أن توقف تراجع أهميته وفقدان صلته.
***
اليوم، أصبحت الجهة التي تملأ هذا الفراغ بوضوح أكبر هي حركة "حماس". منذ نشوئها خلال الانتفاضة الأولى، تحولت الحركة تدريجيًا من مجرد معطِّل إلى طليعة في السياسة الفلسطينية. في العام 2011، نجحت في إطلاق سراح أكثر من 1.000 أسير فلسطيني مقابل جندي إسرائيلي واحد كانت قد أسرته. وكان العنصر الأكثر أهمية في ذلك هو أن المفرج عنهم كانوا ينتمون إلى فصائل فلسطينية متعددة، في ما أظهر قدرة الحركة على نقل نفوذها من ساحة المعركة إلى طاولة التفاوض نيابة عن جميع الفلسطينيين. وخلال "مسيرة العودة الكبرى" -سلسلة الاحتجاجات الجماهيرية عند سياج قطاع غزة في العامين 2018 و2019- أبدت "حماس" استعدادًا لدعم التعبئة الشعبية التي قادتها تشكيلات فلسطينية أخرى. وفي العام 2021، ردّت الحركة على محاولات المستوطنين تهجير الفلسطينيين في القدس بإطلاق الصواريخ من غزة؛ وقد أشعلت هذه الخطوة والهجوم الإسرائيلي اللاحق على غزة ما عُرف بـ"انتفاضة الوحدة"، التي شملت أنشطتها إضرابًا عامًا شارك فيه الفلسطينيون على جانبي الخط الأخضر.
خلال كل هذا الوقت، لم تطوّر "حماس" بالضرورة رؤية سياسية تروق لغالبية الفلسطينيين أو تعالج المظالم المتعلقة بعيوب سلطتها القمعية هي الأخرى في قطاع غزة. بدلًا من ذلك، تمكنت الحركة من ترسيخ موقعها في السياسة الفلسطينية من خلال التأكيد على التزامها بمبدأ يتسامى على الحزب والفصيل جملة وتفصيلًا: المقاومة. وتُظهر استطلاعات رأي أُجريت في الضفة الغربية وقطاع غزة أواخر العام 2023 مستويات دعم لـ"طوفان الأقصى" أعلى بكثير مقارنة بدعم "حماس" نفسها، إدراكًا لأهمية العملية العسكرية في إعادة القضية الفلسطينية إلى الأجندة العالمية. ولعل الشيء الأكثر دلالة هو أن استطلاعات رأي من أيار (مايو) أظهرت أنه حتى من بين الفلسطينيين الذين رأوا في هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) خطأً استراتيجيًا نظرًا لشدة الرد الإسرائيلي، ظل كثير منهم معارضين بحزم لأي نزع سلاح ذاتي تُقدم عليه "حماس" -حيث أجاب 85 في المائة من المستطلَعين في الضفة الغربية، و64 في المائة في غزة بـ"لا" حين سُئلوا عما إذا كانوا سيدعمون نزع سلاح الحركة لوقف الحرب على غزة. وهذا يؤكد ما يشكل بالنسبة لبعض المراقبين حقيقة غير مريحة: أن "حماس" أصبحت الفاعل المركزي في النضال الفلسطيني.
نظريًا، يمكن لميل "حماس" العسكري أن يولّد زخمًا قانونيًا ودبلوماسيًا للقضية الفلسطينية. وتعكس تصريحاتها الأخيرة -التي تستند إلى القانون الدولي في إدانة أفعال إسرائيل، وترحّب بقرارات المحاكم الدولية، وتشكر الناشطين القانونيين حول العالم الداعمين للقضية الفلسطينية- طموحها إلى تبنّي هذه الاستراتيجية المزدوجة. لطالما كانت لـ"حماس" علاقات دبلوماسية نشطة، بما في ذلك مع دول عربية متعددة، ومع روسيا والصين، ومؤخرًا مع الولايات المتحدة في مفاوضات مباشرة. ومع ذلك، ثمة عقبات شبه مستعصية تقف أمام إعادة بعث حركة تحرر وطني فلسطينية يقودها هذا الفصيل. اليوم، تواجه الحركة معضلة تتمثل في أن أفعالها ساعدت على تكريس تهميش "منظمة التحرير الفلسطينية"، في وقت ما تزال المنتديات الدولية تعترف فيه بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني -وهو رصيد ومكسب ثمين تم تحصيله بشق الأنفس والذي تعي "حماس" أهميته.
ولا تستطيع "حماس" ببساطة الانضمام إلى "منظمة" التحرير؛ حيث تتمسّك حركة "فتح"، الفصيل المسيطر تاريخيًا على المنظمة، بإقصائها خوفًا من أن تخسر سلطتها الخاصة. وتصر "فتح" على أن انضمام "حماس" مشروط بقبول "اتفاقيات أوسلو" -وهي ذريعة واهية، بالنظر إلى أن ثاني أكبر فصيل في المنظمة؛ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ظلت ترفض "أوسلو" كل الوقت، وأن "حماس" صرّحت مرارًا بأنها ستقبل بنزع سلاحها طوعًا مقابل قيام دولة فلسطينية على حدود العام 1967. ويشكّل تضادًا صارخًا مع لحظة السبعينيات: في ذلك الوقت، كان الفلسطينيون يرون في "منظمة التحرير الفلسطينية" ممثلهم على الساحة العالمية (حتى على الرغم من تشاجر الفصائل المختلفة وتنافسها تحت مظلتها). أما اليوم فإن النضال الوطني الفلسطيني أصبح أكثر تفتتًا. ثمة "حماس" تحمل لواء الكفاح المسلح، في حين تخلت "سلطة فلسطينية" تواجه ازدراءً متزايدًا فعليًا عن ساحة القانون الدولي لدول مثل جنوب إفريقيا ولمنظمات غير حكومية. لكن أياً من هذه الأطراف لا يمتلك الشرعية الواسعة لقيادة حركة تحرر وطني قادرة على أن تجمع معًا الشعب الفلسطيني وأنصاره حول العالم.
بعبارات أخرى، حتى لو بدا القانون الدولي اليوم وكأنه يَعرض سلاحًا محتملًا بيد القضية الفلسطينية، فإن قدرة كيان فلسطيني محدد ومعرّف بوضوح على استخدام هذا السلاح لم تكن في أي وقت على الإطلاق أكثر عوزًا لليقين مما هي الآن. لكنّ ما هو واضح هو الآتي: إن مسألة ما إذا كانت الإنجازات القانونية ستصبح جزءًا من ترسانة النضال أو ذريعة للتقاعس ستُحسم في نهاية المطاف -ليس في قاعات المحاكم، بل في ميدان السياسة الجماهيرية -في الشوارع؛ و، بشكل خاص، في ساحة المعركة.
*داريل لي Darryl Li: أكاديمي وباحث قانوني وأنثروبولوجي أميركي، يشغل منصب أستاذ مساعد في كلية الحقوق بجامعة شيكاغو. حصل على الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة هارفارد، ودرجة في القانون من جامعة ييل. تتركز أبحاثه على القانون الدولي، والحروب، والهجرة، وعلاقة ذلك بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي. من أبرز أعماله كتابه الصادر في العام 2019 "العدو الكوني: الجهاد، الإمبراطورية، وتحدي التضامن" The Universal Enemy: Jihad, Empire, and the Challenge of Solidarity، الذي تناول فيه ظاهرة المقاتلين الأجانب في البوسنة في تسعينيات القرن العشرين، وحلل فيه تداخلات الجهاد مع الإمبراطوريات الحديثة وقضايا التضامن عبر الحدود.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Gavel and the Gun
هامش المترجم:
(1) "خطة النقاط العشر" هي البرنامج المرحلي الذي أقرّه "المجلس الوطني الفلسطيني" في العام 1974 بقيادة ياسر عرفات، وشكّل منعطفًا مهمًا في استراتيجية "منظمة التحرير الفلسطينية". نصّت الخطة على الاستمرار في الكفاح المسلّح لتحرير فلسطين، لكنها فتحت الباب أمام إمكانية إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء يتم تحريره من الأرض الفلسطينية، كمرحلة أولى على طريق التحرير الكامل. هدفت هذه الخطوة إلى كسب اعتراف عربي ودولي بـ"منظمة التحرير" كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وإدخالها إلى الساحة الدبلوماسية العالمية، لكنها في الوقت نفسه أثارت جدلًا داخليًا حادًا، حيث اعتبرتها بعض الفصائل الفلسطينية تنازلًا خطيرًا قد يؤدي إلى الاعتراف بإسرائيل وقبول الحلول الجزئية بدل التحرير الشامل.