عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Sep-2025

"المؤثرون"… مهنة تبحث عن تنظيم قانوني*أ. د. ليث كمال نصراوين

 الراي 

أثار خبر التعاقد مع أحد المؤثرين الأردنيين على منصات التواصل الاجتماعي لإنتاج محتوى تلفزيوني مقابل مبلغ مالي كبير ضجة شعبية واسعة، تجاوزت حدود الجدل الإعلامي والفني لتسلط الضوء على الإطار القانوني الناظم لعمل من يطلقون على أنفسهم صفة "المؤثرين" وصنّاع المحتوى الرقمي في الأردن. فقد باتت هذه الفئة تمارس نشاطًا اقتصاديًا متناميًا يدر أرباحًا طائلة من الإعلانات والرعايات، تصل في بعض الحالات إلى مداخيل شهرية تفوق رواتب كبار موظفي الدولة وحملة أعلى الدرجات العلمية، بينما يظل نشاطهم خارج أي إطار قانوني خاص وواضح يحدد طبيعة عملهم ويلزمهم بمقتضياته.
 
فمن خلال استعراض قانون ضريبة الدخل رقم (34) لسنة 2014 وتعديلاته، يتضح أنه لا يتضمن تعريفًا خاصًا بالمؤثرين ولا نصوصًا محددة تنظم عملهم. وبناءً عليه، فهم يخضعون للقواعد العامة في فرض الضريبة على الدخول كما قررتها المادة (3) من القانون، التي تنص على أن يخضع للضريبة أي دخل يتأتى في المملكة لأي شخص أو يجنيه منها بغض النظر عن مكان الوفاء، بما في ذلك الدخل المتأتي من نشاط الأعمال، والدخل الناجم عن أي عقد في المملكة كأرباح الوكالات التجارية وما ماثلها، وأي دخل آخر لم يتم إعفاؤه بمقتضى أحكام القانون. ومن ثمّ فإن كل ما يحصل عليه المؤثر من إعلانات وعقود رعاية وهدايا ذات قيمة مالية يدخل في نطاق الدخل الخاضع للضريبة، نقديًا كان أو عينيًا.
 
ويُلزم القانون هؤلاء الأفراد بتقديم إقراراتهم الضريبية في المواعيد الزمنية المحددة، مرفقين بها السجلات والفواتير اللازمة لإثبات إيراداتهم ومصروفاتهم. غير أن الإشكالية الكبرى تكمن في تقدير حجم الدخول السنوية لهذه الفئة من المكلفين، إذ يصعب ضبط الاتفاقات التي يبرمونها مع منصات دولية أو شركات تجارية كبرى، خاصة مع طبيعة هذه العقود التي قد تتسم بالسرية أحيانا.
 
ونتيجة لذلك، تواجه الإدارة الضريبية تحديًا حقيقيًا في التحقق من القيمة الإجمالية لدخل هؤلاء المؤثرين، الذين قد تصل عوائد بعضهم إلى مئات الآلاف من الدنانير شهريًا، الأمر الذي يثير تساؤلات جدية حول العدالة الضريبية بين المهن التقليدية والأنشطة الرقمية.
 
وإذا كان المشرّع الأردني قد تعامل مع المؤثرين في إطار الأحكام العامة لقانون ضريبة الدخل، فإن البُعد التنظيمي لمباشرة هذه المهن وباقي الجوانب الأخرى ذات الصلة بالترخيص أو الرقابة يظل غائبًا تمامًا. فلا نجد في القوانين الأردنية ذات الصلة، كقانون المطبوعات والنشر أو قانون الإعلام المرئي والمسموع، أي نصوص خاصة تنظم عمل هذه الفئة أو تُخضعها لرقابة على العمل أو المحتوى الذي يقدمونه. وهكذا يظل المؤثر يمارس نشاطًا اقتصاديًا واجتماعيًا مؤثرًا بلا ضوابط قانونية واضحة، ما قد يمس بجودة المحتوى المقدم ويضعف من الرقابة عليه.
 
على خلاف الأردن، بادرت تشريعات مقارنة إلى وضع أطر قانونية خاصة بالمؤثرين. ففي الإمارات، ألزم القانون الاتحادي بشأن تنظيم الإعلام أي شخص أو جهة تمارس نشاطًا إعلاميًا ذا طابع تجاري، بما في ذلك المؤثرون، بالحصول على التراخيص اللازمة من مجلس الإمارات للإعلام. وفي السعودية، أطلقت الهيئة العامة لتنظيم الإعلام منصة "موثوق"، وهو نظام تسجيل إلزامي لكل من يرغب بممارسة عمل تجاري أو تقديم الإعلانات على منصات التواصل الاجتماعي، لضمان التعرف على المؤثرين ورقابة أعمالهم. أما في الكويت، فتفرض وزارة الإعلام ترخيصًا رسميًا على المؤثرين قبل ممارسة أي نشاط إعلاني تجاري، مع توثيق حساباتهم لدى الوزارة لتحديد هويتهم ومسؤولياتهم القانونية.
 
هذه النماذج توضح أن التعامل مع المؤثرين لم يعد شأنًا تقنيًا أو ترفيهيًا، بل قضية اقتصادية وتشريعية كبرى. فالمؤثرون تحولوا إلى فاعلين اقتصاديين لهم أثر مالي مباشر، وغياب التشريع الخاص بهم في الأردن يهدد بتفويت موارد ضريبية ضخمة على الخزينة، ويكرّس حالة من عدم المساواة بين المكلفين. بل إن هذا الغياب يضع الدولة في مواجهة مع مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في المادة (6) من الدستور، ويحدّ من تطبيق مبدأ العدالة الضريبية والتصاعدية الذي نصت عليه المادة (111) من الدستور.
 
لذلك، لم يعد تجاهل هذه المعضلة خيارًا. وإذا كان قانون ضريبة الدخل قد شمل المؤثرين مبدئيًا بقواعده العامة، فإن المرحلة المقبلة تستدعي تطوير أدوات تشريعية وتنظيمية واضحة، سواء عبر تعليمات ضريبية خاصة بالمؤثرين لتقدير المنافع العينية كالهدايا ورحلات السفر، أو باستحداث إطار قانوني يُعرّف المؤثرين ويضع قواعد شفافة لعملهم، بما في ذلك سجل رسمي تحت إشراف هيئة الإعلام.
 
إن المؤثرين لاعبون اقتصاديون يصعب تجاهلهم، وتضخم العوائد التي يحققونها من الإعلانات والرعايات يفرض على الدولة التعامل معهم كقطاع اقتصادي قائم بذاته. فإقرار إطار قانوني واضح لهم لم يعد ترفًا تشريعيًا، بل ضرورة مالية وعدلية ملحة تضمن المساواة بين المكلفين، وتنعش خزينة الدولة بموارد ضريبية كبيرة من دخول استثنائية تتحقق يوميًا على شاشات الهواتف الذكية.