الغد
منذ أكثر من قرن، تتكرر محاولات القوى الكبرى لفرض مستقبل فلسطين بعيدًا عن إرادة شعبها، وكأن الأرض ملكٌ قابل للتصرف، والشعب تفصيل غير ضروري في حسابات السياسة الدولية. بدأ ذلك بوضوح صارخ مع وعد بلفور العام 1917، عندما قدّم اللورد البريطاني آرثر بلفور تعهّدًا لليهود الأوروبيين بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، متجاهلًا وجود شعب عربي متجذر في الأرض منذ آلاف السنين. لم يكن الوعد مجرد بيان سياسي، بل كان مشروعًا استعماريًا متكاملًا، نابعًا من رؤية غربية ترى نفسها مخوّلة بتوزيع أراضي الشعوب كما تشاء. عبر الوعد، وضعت بريطانيا الأساس القانوني والسياسي لزرع كيانٍ استيطاني في فلسطين يخدم مصالحها في المنطقة ويؤمن لها نفوذًا دائمًا في الشرق الأوسط.
هذا الوعد لم يأتِ في فراغ، بل ارتبط بمشروع استعماري أوسع هدفه إعادة تشكيل خريطة المنطقة العربية بما يحقق التوازنات التي ترغب بها القوى الأوروبية. كانت فلسطين بالنسبة للمشروع الاستعماري عقدة جغرافية وإستراتيجية، وبوابة للسيطرة على الشرق. لذلك، لم تتردد بريطانيا في فتح الباب أمام الهجرة اليهودية المنظمة، وتقديم الدعم العسكري والسياسي للمنظمات الصهيونية، إلى أن أُعلن قيام دولة إسرائيل العام 1948، وما تبعه من تهجير أكثر من سبعمائة وخمسين ألف فلسطيني في نكبة لم تتوقف آثارها حتى اليوم.
ومع مرور الوقت تغير شكل الاستعمار، لكنه لم يختفِ. وبعد أن كان الاحتلال العسكري المباشر الأداة الأولى للسيطرة، أصبحت الإدارة غير المباشرة والتحكم السياسي والاقتصادي أدوات جديدة تخفف كلفة الاحتلال على الطرف المحتل، وتلقي العبء على الطرف المحتل. تجسدت هذه الفكرة بوضوح في اتفاقية أوسلو العام 1993، التي أُنشئت بموجبها السلطة الفلسطينية لتكون إدارة محلية محدودة الصلاحيات، تدير شؤون السكان في مناطق مقطعة ومجزأة، بينما تبقى السيادة الفعلية على الأرض والمعابر والحدود والمياه في يد الاحتلال. بدا واضحًا أن الهدف لم يكن منح الفلسطينيين دولة، بل تحويل الاحتلال إلى نظام إدارة يتحمل الفلسطينيون مسؤولياته اليومية، بينما تحافظ إسرائيل على سيطرتها من دون تكلفة تُذكر.
ثم جاءت مرحلة جديدة من محاولات إعادة القضية الفلسطينية إلى مربع "الحل الإداري"، لا "التحرر الوطني". تمثلت هذه المرحلة في خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المعروفة باسم "صفقة القرن"، والتي رُوّج لها كمبادرة لحل الصراع، لكنها في جوهرها كانت محاولة لتصفية القضية الفلسطينية عبر اختزالها في مشروع اقتصادي. لم تتعامل الخطة مع الفلسطينيين كشعب له حقوق سياسية وتاريخية، بل كجماعة يمكن إقناعها بقبول الأمر الواقع عبر مشاريع مالية ومنح اقتصادية. قُدمت فلسطين في تلك الخطة لا كأرض محتلة، بل كمنطقة تحتاج إلى "تنمية". نصت الخطة على ضمّ أجزاء واسعة من الضفة الغربية لإسرائيل، وعلى إقامة كيان فلسطيني منزوع السلاح لا يملك السيطرة على حدوده ولا على أجوائه، وعلى اعتبار القدس عاصمة موحدة لإسرائيل. هكذا عادت القضية الفلسطينية في الخطاب الأميركي إلى ما يشبه منطق بلفور: الأرض تُمنح وتُمنع بقرار خارجي، والشعب يمكن تجاهله.
وفي عهد ترامب وخطته الجديدة، ظهرت مقاربة أخرى تستكمل هذا المسار، وهذه المرة عبر شخصية توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق والمبعوث الدولي السابق. قدم بلير رؤية تقوم على "تحسين ظروف غزة" عبر مشاريع اقتصادية، وميناء مؤقت، ومناطق صناعية، وتسهيلات معيشية، من دون أي حديث عن إنهاء الاحتلال أو الاعتراف بالحقوق السياسية. الفكرة المحورية في خطته هي تحويل غزة إلى كيان يمكن إدارة أزمته، لا حلها. يتم التعامل مع الفلسطينيين كأشخاص يمكن احتواؤهم عبر تحسينات مادية، بينما تبقى السيادة خارج أيديهم. تعكس هذه الرؤية جوهر الاستعمار الحديث: السيطرة عبر الاقتصاد بدلًا من السيطرة عبر الجيش.
عبر كل هذه المراحل يتضح خيط واحد مستمر، اجتماع القوى الاستعمارية والصهيونية على التعامل مع شعب كامل بوصفه عائقًا يجب الالتفاف عليه. وعد بلفور أنكر وجود الشعب الفلسطيني أصلًا، صفقة ترامب حولت القضية إلى مشروع اقتصادي بلا سيادة، وخطط بلير تسعى إلى تحويل غزة إلى منطقة إدارة أزمات. في كل مرة تتغير الأدوات، لكن الفكرة ذاتها تتكرر: تجريد الفلسطيني من حقه الطبيعي في أن يكون صاحب أرض وسيادة، وإعادة إنتاج الاحتلال بشكل أكثر نعومة وأقل تكلفة سياسية.
ورغم مرور أكثر من سبعين عامًا على الاحتلال، ورغم تغير الأدوات والأساليب، لم يستطع أي مشروع استعماري أن يلغي حقيقة واحدة هي أن هناك شعبًا اسمه الشعب الفلسطيني، متجذر في أرضه، يرفض أن يتحول إلى "مشكلة إنسانية" أو "قضية اقتصادية". فلسطين ليست ملفًا إداريًا، وليست مشروعًا سياسيًا يمكن إعادة صياغته كلما شاءت القوى الكبرى. فلسطين وطن، وشعب، وانتماء، وذاكرة جماعية تقاوم النسيان.
وهكذا، من وعد بلفور إلى خطط ترامب وإدارة بلير، تظل القضية الفلسطينية اختبارًا للعدالة في هذا العالم، ودليلًا حيًا على أن الاستعمار لا يموت، بل يبدل لغته وأدواته. لكن التاريخ أثبت أن الشعوب التي تتمسك بحقها لا تُهزم، وأن الحقوق، مهما طال الزمن، لا تسقط بالتقادم.