عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    29-Sep-2025

"غربال الذكريات" لعماري.. رحلة تستحضر عبق الأيام البسيطة

 الغد-عزيزة علي

 قدم الباحث والكاتب نبيل عماري محاضرة بعنوان "غربال الذكريات وذاكرة زمن جميل"، في ديوان عشيرة "آل عمّاري".
هذه الأمسية، التي لم تكن مجرد حديث عن الماضي، بل رحلة ساحرة عبر الزمن، استحضر خلالها عماري عبق الأيام البسيطة، وروح الحارات القديمة، وأصوات الطفولة التي تزينت بالفرح والحنين.
 
 
أدارت المحاضرة الزميلة رنا حداد، بحضور جمهور من المهتمين بالشأن الثقافي الأردني. واستهلت حديثها بالقول "إننا نلتقي في هذه الأمسية مع قامة أدبية أردنية نعتز بها، الكاتب نبيل عمّاري، الحريص على صون التراث واستحضار عبق الزمن الجميل".
وأضافت حداد أن عماري هو حارس لذكريات وطننا الغالي، يتحفنا بين الحين والآخر بباقة ندية من الحنين والبريق، تعيدنا إلى أيام البساطة والمحبة والروابط العائلية التي جمعت أبناء الحارة الواحدة، يوم كانت الفوارق الاجتماعية شبه غائبة، وجدران البيوت متلاصقة، والجيران يتآخون كالأهل.
وقالت "إن عماري يأخذنا إلى زمنٍ كانت فيه أغنية الحصّادين تتساقط ندية مع الصباح، فتملأ أركان المكان بالحياة والدفء. تلك الأيام التي رحلت عنا، لكنه أعادها إلينا محفوظة في صفحات كتبه ومدوناته".
قال المحاضر نبيل عمّاري "إن من أجمل ما يفعله الإنسان هو أن يدون ذكرياته، ويعيد فتح ألبوم الصور العتيق، يقلب صفحاته واحدة تلو الأخرى، ويتأمل الوجوه والملامح التي تعود لتحرك الذاكرة كأنها شريط سينمائي يتوالى أمامه.
وأضاف عماري حين يأخذني الحنين إلى ذلك الزمن، وقد غزا الشيب مفرقي، أهمس: يا الله، كم مضى من العمر، وكم غاب من أهل وأصدقاء وأقارب، وكم مررنا بمحن وأفراح وأتراح! تبدل العالم كثيراً... هنا صور من سبقونا إلى دار الحق: جدتي، أبي، أمي، أقارب وأصدقاء، وآخرون أثقلتهم السنون بتجاعيد العمر وثقله.
وبين المحاضر أن العالم تغير وأصبح أكثر استعجالا، حتى الحبيبة كبُرت، وصفحات العمر طُويت مسرعة. كان هناك زمن الرومانسية، وزمن قلم (الباركر) الذي يخط بالمداد الأسود قصائد الغرام، فوق صفحات الأوتوغراف أو دفاتر الرسائل التي تفوح منها لغة الورد والهيام.
وأشار عمّاري إلى زمن الحب والكاسيت وأغاني الزمن الجميل، إلى "فاتت جنبنا"، "الحلوة الحلوة"، وزمن الشارلستون والقميص الأبيض المنشّى، ووسائل الغرام المضمخة بعطر "البروفسي"، والقصائد المسروقة من دواوين نزار قبّاني: "قالت لي السمراء"، حتى يرضى قلب الحبيبة.
لقد كان ذاك زمن الرصانة في الحب وعذوبة العشق، زمن عبد الحليم وهو يطل بأغنياته ليحرك المشاعر، فننتظر غمزة أو ضحكة من الحبيبة ليقفز الفؤاد من قفصه الصدري. كانت الحياة يومها أكثر رقّة وعذوبة في الأبيض والأسود.
وتابع قائلا: "ذكريات الأبيض والأسود بدت لي أبهى، من ألبومي العتيق إلى محطات زمن جميل يأخذنا معه إلى صوت الإذاعة، وبرامج البث المباشر، ولقاء الظهيرة ورسائل الشوق، وإلى بدايات التلفزيون الأردني ببرامجه ومسلسلاته، ومباريات المصارعة، وأغنيات ميسون الصناع وعبده موسى وتوفيق النمري وسميرة توفيق، ومقالب غوار في "حمّام الهنا".
وأضاف عماري كلها كانت صورًا بالأبيض والأسود: فارس ونجود، ومقاطع الدراما القديمة، وحتى دعايات ذلك الزمن التي ما نزال نحفظها ونرددها؛ مثل إعلان "أنا بدي أرسي"، و"لافاش كيري"، "ميرند إنها سيل من طَعم البرتقال"، ودعاية "عطر بلاك جاك يفجّر شخصيتك".
كان ذلك زمانا جميلا هادئا؛ زمن الثقافة والوداعة، زمن العلم والهدوء، زمن القيمة الحقيقية للبيت والوطن والمدرسة والجامعة… نعم، إنه زمن لا يشبه سواه. كان العمر في ذلك الزمن طيبا، كيف لا ونحن لم نكلف آباءنا أكثر من خمسة وسبعين قرشا رسوما مدرسية، مع قليل من الدفاتر والمساطر والطوابع والأقلام، وحذاء صينيا لا يتجاوز ثمنه نصف دينار، وجرزاية بسيطة، ومرايل تخاطها أمهاتنا في البيوت.
وقال "كنا نصنع بأناملنا طائراتٍ من ورق، ومقاليع ونقيفيات وفخاخا لصيد العصافير، ونبتكر سيارات من أسلاك، وكوسترات من خشب و"بيليه"، بل وحتى سينما منزلية تتراقص صورها على الحائط خلف شمعة صغيرة".
كانت الهوايات يومذاك بسيطة وعفوية، لكنها مفعمة بالفرح والبراءة؛ جمع الطوابع والعملة، والاحتفاظ بصور أبطال المسلسلات مثل "الفرجيني"، "حمّام الهنا"، "مقالب غوار". "كنا نفرح بالتلفاز كأنه عيد، نضحك مع توم وجيري و"الشبح"، ونستمتع بمغامرات غوار ورفاقه، ونترقب حلقات كومبات و"المهابيل الثلاثة". كانت تلك التفاصيل الصغيرة عالمنا الكبير، وزاد طفولتنا اليومي من الدهشة والبهجة".
ورأى المحاضر، أن ذلك كان زمنا جميلا، زمن مدارسنا النظيفة التي تزيّنها حديقة صغيرة، فننشد في ساحاتها بصوت واحد يملأ الأرجاء: "دمتَ يا شبل الحسين"، و"يا علمي يا علم"، و"خافقًا بالمعالي والمنى". كنا نولي اهتمامًا خاصًا لحصص الفن والرياضة والخط العربي، فنرسم ونغني ونتمرن ونخط بحروفنا الأولى ملامح الجمال والانضباط، وكأن المدرسة كانت بيتًا آخر يحتضننا بالعلم والوطنية معًا.
يقول "كانت لنا في ذلك الزمن وظائف صغيرة وبسيطة، لكنها مليئة بالمعنى؛ نرسل العجينة إلى فرّان الحارة، ونشتري صحن حمص أو فول صباح الجمعة، ونكتفي "بعروسة لبنة" أو زعتر زادًا في طريق المدرسة. قد لا يتجاوز مصروفنا قرشا أو "قرطة"، نشتري بها حبة "آيسكيمو" أو "دورادو"، فنفرح بها كأنها عيد".
وفي الأعياد، تجمع العيديات في "كجّة" فخارية تكسر حين تمتلئ. أما الأغنيات، فكانت تصدح بأصوات عمالقة الطرب: "فهد بلان، توفيق النمري، ذياب مشهور، نصري شمس الدين، فيروز، صباح، الثلاثي المرح، وديع الصافي، وسميرة توفيق"، أصوات صنعت ذاكرة كاملة من الفرح والحنين.
وقال عماري "في ذلك الوقت كان الحلوان بسيطا ومليئا بالبهجة: ملبس الحامض الحلو، والكعكبان، والشوكولاتة سلفانا ومترو والناشد، فلم يكن التنوع موجودا كما اليوم، لكن السمنة المدهونة على الخبز مع رشة سكر كانت أطيب كنافة، والقلية والبطم وبزر البطيخ المقلي، والفيصلية كانت أحلى نقرشة.
أما الفرح، فكان عند حصول الآباء على الرواتب، بأخذ ما تيسر من تعاريف وقروش نحاسية جديدة من البنك المركزي. وكانت الفرحة عارمة عند الفوز بالبالون رقم 10 في سحبة البلالين، أو كرة القدم بعد جمع أغطية عدة، من حليب السفتي والنيدو، أو ربح كرة قدم، وصحن طائر، وزجاجة بيبسي، أو أرسي بعد اكتشاف ما ربحت تحت الغطاء.