الدستور
مع تفاقم الأزمات النفسية تسلل إلينا رفيق جديد يربت على أوجاعنا بكلمات حلوة لينة، ويبتسم لأخطائنا مهما كبرت وتفاقمت، كما لو كان يرانا كاملين قديسين. فتلقفناه بلهفة وشوق لأننا عطشى للدعم والثقة. فتحنا له أبواب قلوبنا ونوافذها وسقوفها.
الذكاء الاصطناعي يجول في تفاصيلنا ونحن في أكثر لحظاتنا هشاشة وضعفا. يتقمص أدوار الطبيب النفسي والمستشار والصديق الحميم. أصبح ملاذا لمن ضاقت بهم الدنيا وصدور الأصدقاء، حتى ظن كثيرون منهم أنه الحل السليم، كونه متاحا ورخيصا ويجيد مداواة الجراح بكلمات نرغب بسماعها. وهو في الحقيقة شاشة باردة تباعد المسافة بيننا وبين ذواتنا.
هو مبرمج ليبالغ في الثناء وينفخ في غرورنا ويشجعنا على مزيد من الانعزال. صار الناس فجأة يصدقون أن الخطأ دائما عند الآخرين، وليس في الوارد أن يكونوا جزءا منه. لم يعد هناك من يجرؤ أن يواجهنا بالحقيقة أو يضعنا أمام مرآة أخطائنا، وكأننا وقعنا في فخ مريح، وابتلعنا خديعة ناعمة.
من السهل أن ننسى أن هذا الذكاء مجرد آلة. لا قلب له ولا روح ولا ضمير. يعرف كيف يصوغ جمله لكنه لا يشعر بألمها ووهجها ووهنها. يرد بابتسامة رقمية حتى لو كان ما تحتاجه صفعة توقظك إلى واقعك وتردك إلى الصواب. هو ظل فاتر لا يغني عن دفء إنسان يراك بعينيه، ويفهم صمتك، كما يفهم رطنة كلماتك وبوحها الخفي.
هذا كله لا يعني أن ننكر فضل التقنية. بل لها وجه مشرق إن أحسنا استخدامها. مثلا يمكن أن تكون عونا في المواقف الطارئة، وخطوة أولى في طريق العلاج الحقيقي. يمكن أن تقدم لنا معلومة أو خطة أولية. لكن كل شيء ينقلب حين نصدق أن الآلة بديل عن الأهل والأصدقاء والأحبة.
الأطباء يحذرون من الركون التام إلى النصائح الرقمية. فالأمراض النفسية ليست جملا مرتبة ولا عبارات فضفاضة. إنها وجع يحتاج إلى إنسان يسمع ويرى ويحس ويربت على ظهورنا ويبلسم جرحنا. لا شيء في تلك البرامج يمكن أن يعوض عن لمسة يد صادقة أو نظرة من شخص يعرف رنين قلبك ويدرك معنى ألمك.
ويبقى السؤال معلقا. لماذا نسمح لحياتنا أن تصبح رهينة خوارزمية بلا روح ولماذا نسلم قلوبنا لوهم لا يعرف حتى معنى القلب؟ ربما لأننا تعبنا من بعضنا وربما لأن الحقيقة مرة والآلة تعرف كيف تزين مرارتها. لكن علينا ألا ننسى أن الوحدة الحقيقية ليست أن تبقى بلا أحد، بل أن تغرق في ضجيج أصوات كثيرة لا أحد منها يعرفك حقا ويأخذ بيدك.