الغد
نشرت قبل أيام منشورا على صفحتي في فيسبوك، احتفيت فيه بفوز المرشح اليساري ذي الجذور المسلمة مامادي زهران في الانتخابات التمهيدية لمدينة نيويورك. كان احتفائي نابعا من طبيعة هذا المرشح القادم من خارج الطبقة السياسية التقليدية، ومن مواقفه الجريئة في مُناصرة القضية الفلسطينية، وهو ما جلب له أعداء كثر في مقدمتهم اللّوبي الصّهيوني؛ لكن هذا الترحيب لم يمر دون اعتراض من بعض القُرّاء. لم يكن الاعتراض على نجاحه السياسي أو قصته الشخصية؛ بل على فكرة الاحتفاء بشخص أختلف معه في قضايا أخلاقية وفِكرية، مثل دعمه للمثلية التي أرفضها، بَدا وكأن بعضهم يُريد من كل موقف أن يكون إعلان ولاء مُطلق أو رفض قاطع، وكأننا لا نملك إلا أن نكون مع أو ضد.
لكن الحياة في حقيقتها، ليست معادلة صفرية، فبين الأبيض والأسود هناك طيف واسع من الألوان ومساحات رمادية لا يُمكن تَجاهُلها. فالإنسان بطبيعته كائن مُعقد يحمل في داخله تناقضات، ويجمع بين الإنجازات والعثرات، وبين المجد والأخطاءِ، ومن الطّبيعي أن نختلف مع الآخرين في بعض القضايا، حتى لو اتفقنا معهم في قضايا أخرى، ومن الطّبيعي أيضا أن نحتفي بإنجاز شخص ما في مجال معيّن دون أن يَعني ذلك أنّنا نؤيده في كل شيء أو نوافقه على كل مواقفه.
هنا يحضُرني تصوُّر الفيلسوف الألماني هيغل عن حركةِ التاريخ؛ فالتاريخ -كما يراه- ليس صِراعًا بين خيرٍ وشرٍ أو بين أبيض وأسود؛ بلْ هو سيرورة جدليّة تتطوّر عبر التّفاعلِ بين الأطروحاتِ ونقائِضِها؛ لينشأ في النهايةِ تركيبٌ جديد أكثرَ شُمولًا ونُضجًا لا يُلغى طرف لصالح الآخر؛ بلْ يدمج الإيجابي من كل طرف في صياغة أرحب. بهذا المعنى؛ يُصبح الاعتراف بإنجازات شخص نختلفُ معه أو الاحتفاء بجانب من تجربته ليس تنازلا عن المبادئ؛ بل تعبيرا عن وعي تاريخي يُدركُ أنَّ التّقدم لا يتحقق بالإقصاء؛ بل بالحوار والتجاوز.
كم من الشخصيات التّاريخية العظيمة التي نحتفي بها اليوم لو دققنا في تفاصيل حياتها ومواقفها، لوجدنا فيها ما نختلف معه أو حتى نستنكره؛ لكننا لا نُلغي إنجازاتهم بسبب أخطائهم، ولا نُلغي أخطاءهم بسبب إنجازاتهم؛ بلْ نراهم كما هم: بشرا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
الاحتفاء بفوز زهران إذا ليس تبنيا لِكافة أفكاره؛ بلْ تقديرا لقصةِ نجاح مُهاجر مُسلم استطاع أن يحقّق اختراقا في مجتمعٍ صعب وضمن ظروف غاية في الصعوبة، وأنْ يصل إلى موقعٍ مؤثّر كان حكرا على طبقة سياسية معينة تحظى بمباركة اللوبي الصهيوني، لكننا عندما نحتفي بإنجازه لا يعني أن نغض الطّرف عما نختلف معه فيه ولا أن نُلغي قِيمنا أو قناعاتنا.
ثقافةُ الإلغاء، أو منطق «الكل أو العدم»، تحرمنا من رؤية التعقيدات الإنسانية، وتدفعنا إلى محاكمِ تفتيش أخلاقية لا تترِك مجالا للنُّمو أو المراجعة أو حتى الحوار، فحين نحصر الحوار في «تأييد مُطلق» أو «إلغاء مُطلق» نفقد المجتمع قدرته على التعلم، ونحرم أنفسنا من فرصة الإنصاف.
الإنصاف يعني أنْ نفصل بين الشخص والفكرة، وأنْ نحتفي بالإنجاز دون أن نبرر الخَطأ، وأنْ ننتقد دون أن نلغي، وأن نرى الآخر كما نرى أنفسنا: مزيجا من المجد والأخطاء -على رأي شاعرنا الكبير الجواهري-.