عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    08-Nov-2025

الجوع يهدد السلام في غزة

  الغد

جيريمي كونايندايك* - (فورين أفيرز) 23/10/2025
القيود الإسرائيلية المستمرة على دخول المساعدات إلى غزة بعد اتفاق وقف إطلاق النار أدت إلى تفاقم المجاعة وعرقلة جهود الإغاثة. سيتوقف إنقاذ المدنيين وضمان صمود الهدنة على تمكين الأمم المتحدة من قيادة العملية، وممارسة ضغط أميركي ودولي حازم لضمان تدفق المساعدات بلا عوائق.
 
من بين الأهداف المتعددة لاتفاق وقف إطلاق النار المبرم في 8 تشرين الأول (أكتوبر) بين إسرائيل و"حماس"، يُفترض أن يكون تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة أحد أكثر الأهداف سهولة وقابلية للتحقيق. فوفقاً لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المكونة من 20 نقطة، سيتم إرسال "كل أنواع المساعدات الضرورية فوراً إلى قطاع غزة" من خلال مؤسسات دولية محايدة "من دون تدخل من الطرفين". وتدعو المرحلة الأولى من الاتفاق إلى دخول 600 شاحنة مساعدات يومياً إلى القطاع من دون عوائق. ومقارنة بنزع سلاح "حماس" أو تحديد الترتيبات طويلة الأمد المتعلقة بالأمن والحكم في غزة، فإن تنفيذ هذا التدبير يعد بسيطاً من الناحية النظرية. مبدئياً، وبعد عامين من الحرمان المروع والنزوح المتكرر والمجاعة المتفاقمة، كان من المفترض أن يتيح هذا الاتفاق أخيراً لأهل غزة البدء في تلقي إمدادات كافية من الغذاء والدواء وغيرهما من الضروريات الحيوية.
ولكن، مع أن الاتفاق لم يمضِ عليه سوى أسبوعين عند كتابة هذه السطور، تبين أنه قد فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق هذه الأهداف. بعد أيام قليلة من التوصل إليه، أعلنت إسرائيل أنها ستؤخر إعادة فتح معبر رفح الحيوي، وهو أحد المنافذ الرئيسة للمساعدات القادمة من مصر، وستقلص عدد شاحنات الإغاثة التي كان من المفترض أن تسمح بدخولها إلى النصف، بحجة أن "حماس" كانت بطيئة جداً في إعادة جثث الرهائن المتوفين. (قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن إعادة جثامين الرهائن تمثل "تحدياً هائلاً" يتطلب معدات خاصة وقد يستغرق أسابيع). وبعد ذلك بأيام، هددت الحكومة الإسرائيلية بوقف كامل لتدفق المساعدات رداً على ما وصفته بـ"هجوم" نفذته "حماس" على جرافة تابعة للجيش الإسرائيلي في رفح؛ لكنها تراجعت تحت الضغط الأميركي بعدما تبين أن الجرافة الإسرائيلية اصطدمت على الأرجح بذخيرة غير منفجرة. كما أن عدة منظمات كبرى غير حكومية باتت مشلولة بفعل متطلبات تسجيل جديدة فرضتها إسرائيل. وبسبب استمرار إغلاق المعابر في الشمال، ما يزال جزء كبير من شمال غزة خارج نطاق عمليات تسليم المساعدات، على الرغم من فتح الطرق المؤدية إلى تلك المعابر. ونتيجة لهذه الإجراءات، ما تزال المساعدات محظورة في معظمها، خلافاً لما نصت عليه بنود الاتفاق. وبعد تدفق أولي عند توقيع وقف إطلاق النار، ما تزال كميات المساعدات أقل بكثير من الحد الأدنى المطلوب لوقف المجاعة؛ وحتى 21 تشرين الأول (أكتوبر)، أفاد برنامج الأغذية العالمي بأنه تمكن من إدخال أقل من نصف حجم المساعدات الغذائية المطلوبة.
يشير هذا الوضع إلى مشكلة كانت حاضرة طوال فترة الحرب -بل وحتى قبلها بوقت طويل. فبينما يفرض القانون الدولي ضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين بغض النظر عن وضع النزاع القائم بين الأطراف المتحاربة، تم استخدام المساعدات إلى غزة باستمرار كورقة مساومة بين إسرائيل و"حماس"، أو قامت إسرائيل بتقييدها أو حجبها لأسباب تعسفية. وعلاوة على ذلك، من خلال ربط اتفاقات وقف إطلاق النار بمعادلة المساعدات مقابل الرهائن، منح المفاوضون ضمناً شرعية لاستراتيجية إسرائيل القائمة على العقاب الجماعي للمدنيين في غزة كوسيلة لكسب النفوذ أو ممارسة الضغط على "حماس". ويمتد نمط العرقلة هذا ليشمل السيطرة على إيصال المساعدات والإشراف عليها. وقد رفضت إسرائيل منذ الأشهر الأولى العمل مع (الأونروا)، "وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" التي تظل أكبر جهة إغاثة وأكثرها كفاءة في غزة، وداعماً أساسياً لمنظمات الإغاثة الفلسطينية والدولية. ومنذ الاتفاق، رفضت إسرائيل إعادة التعامل مع الوكالة، مما أعاق جهود الإغاثة على نطاق واسع.
على الرغم من هذه التحديات الهائلة، ما يزال من الممكن تدارك الأزمة الإنسانية في غزة وقلب مسارها. فقد أنشأت الولايات المتحدة مركز تنسيق مدني وعسكري جديدا بقيادة البنتاغون، يُفترض أن يتولى الإشراف على توسيع نطاق المساعدات. وإذا تولى هذا المركز زمام الأمور بقوة وشكل حاجزاً أمام عرقلة إسرائيل للمساعدات، فقد يكون له دور حاسم. ولكن لكي يكون فعالاً على الأرض، يجب على هذا المركز دعم نظام تنسيق المساعدات الذي تقوده الأمم المتحدة بدلاً من السعي إلى الحلول محله. كما سيتعين على الدول الضامنة للاتفاق، بما في ذلك القوى الإقليمية والدول الأوروبية إلى جانب الولايات المتحدة، العمل بشكل وثيق لدعم البنية التحتية للإغاثة التابعة للأمم المتحدة، وضمان الالتزام بالجوانب الإنسانية في الاتفاق، والاستعداد لتطبيق ضغوط أميركية ودولية سريعة في حال حدوث أي تراجع أو تدخل. وبالنظر إلى عدد الأرواح المهددة إذا تعثرت المساعدات الإنسانية، فإن تحقيق هذا الهدف يجب أن يكون أولوية بالنسبة لضامني الاتفاق، شأنه شأن المسائل الأمنية. ومع استمرار المجاعة واقتراب فصل الشتاء، فإن كل تأخير ستكون له تكلفة باهظة.
من الحصار إلى المجاعة
بعد عامين من الحرب، يعيش سكان غزة حالة من الحرمان الشديد. كان الحصار الكامل الذي فرضته إسرائيل على القطاع بدءاً من آذار (مارس) نقطة تحول حاسمة، وفي آب (أغسطس)، أعلن "التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" Integrated Food Security Phase Classification التابع للأمم المتحدة، رسمياً، أن المجاعة بدأت في بعض أجزاء غزة. وقد نزح أكثر من 1.9 مليون شخص، أي ما يقارب كامل عدد سكان القطاع، (وغالباً ما أعيد تهجيرهم مرات عدة) بسبب أوامر الإخلاء المتكررة التي أصدرها جيش الدفاع الإسرائيلي والقصف المستمر للمناطق المدنية. وحتى مع وقف إطلاق النار، هناك كثيرون لا يملكون منازل يعودون إليها: تقدر الأمم المتحدة أن 80 في المائة من المساكن في القطاع، و89 في المائة من البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، قد تضررت أو دُمرت. أما نظام الرعاية الصحية في غزة بشكله المعروف قبل الحرب فقد تعرض للتدمير التام تقريباً، حيث أفادت "منظمة الصحة العالمية"، في أيار (مايو) 2025، بأن 94 في المائة من المستشفيات قد تضررت أو سُويت بالأرض.
لم يكن هذا الوضع المزري نتيجة جانبية عرضية للقتال، بل هو نتيجة مباشرة للسياسات والتكتيكات الإسرائيلية. في أعقاب هجمات "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، هدد يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، علناً، بفرض "حصار كامل" على القطاع، بما في ذلك قطع تام للغذاء والماء والوقود والكهرباء. ووصفَ متحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت تكتيكات إسرائيل بأنها تقوم على "إلحاق أقصى قدر من الضرر". وكما أظهرت وقائع الحرب اللاحقة، فقد حققت الحكومة الإسرائيلية كثيراً من هذه الأهداف. وحتى قبل أن تبدأ حصارها الكامل في آذار (مارس) 2025، شددت إسرائيل القيود بشكل متكرر على تدفق المساعدات وكثفت القصف للضغط على "حماس" وإجبار سكان غزة على مغادرة مناطق معينة. وفي غضون ذلك، أدت حملة إسرائيل ضد (الأونروا) إلى تقويض البنية التحتية اللوجستية التي سمحت لفترة طويلة لوكالات الإغاثة الدولية بالوصول إلى المحتاجين في جميع أنحاء غزة. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2024، أقر الكنيست الإسرائيلي قانوناً يحظر على السلطات الإسرائيلية أي اتصال بالوكالة، بزعم أنها مُخترَقة من "حماس". وبعد إجراء تحقيقات، فصلت الأمم المتحدة 9 من أصل 30 ألف موظف في الوكالة بسبب علاقاتهم بـ"حماس"، لكنها لم تجد أي دليل على نفوذ أوسع للحركة مثلما زعمت الحكومة الإسرائيلية. وفي عهد إدارة بايدن، حثت الولايات المتحدة إسرائيل على السماح للوكالة بمواصلة عملها.
في الواقع، لتقييد المساعدات وعرقلتها تاريخ طويل في تعامل إسرائيل مع غزة، يعود إلى الحصار طويل الأمد والأقل صرامة الذي فرضته إسرائيل على القطاع بعد تولي "حماس" السلطة في القطاع في العام 2007. في ذلك الحين، سمحت إسرائيل بدخول كميات من الغذاء لا تتجاوز الحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة للبقاء -أي فوق مستوى المجاعة بقليل- ومنعت مواد البناء ومستلزمات البنية التحتية والسلع الأساسية الأخرى من دخول القطاع بذريعة أنها مزدوجة الاستخدام، أي يمكن أن تُستخدم لأغراض عسكرية ومدنية على السواء. وطوال سنوات، رفضت الحكومة الإسرائيلية توضيح المواد التي تعتبرها مزدوجة الاستخدام، ولم تتراجع إلا بعد طعن قانوني رفعته منظمة "غيشا" Gisha الإسرائيلية لحقوق الإنسان. ومنذ هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) وبدء الحرب في غزة، أعلنت وكالات الإغاثة العاملة في القطاع عن رفض مماثل غامض وتعسفي لدخول معدات المستشفيات وغيرها من السلع الأساسية من قِبل مفتشي الجيش الإسرائيلي. وحتى لو صمد وقف إطلاق النار الحالي، فمن المرجح أن تستمر هذه الأنواع من العراقيل.
إلى حد ما، فرضت عدة إجراءات قانونية دولية جارية ضغوطاً جديدة على إسرائيل لضمان وصول المساعدات. في آذار (مارس) 2024، خلصت "محكمة العدل الدولية"، بالإجماع، إلى أن على إسرائيل اتخاذ "جميع التدابير اللازمة والفعالة من دون تأخير، وبالتعاون الكامل مع الأمم المتحدة، لتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية العاجلة على نطاق واسع ومن دون عوائق". وعلى الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية تجاهلت هذا القرار فعلياً، إلا أن الحكم أكد الإجماع الدولي الواسع على أن عرقلة المساعدات تُشكل انتهاكاً للقانون الدولي. (حتى القاضي الإسرائيلي في محكمة العدل الدولية، أهارون باراك، الذي عارض جميع الإجراءات الأخرى التي اتخذتها المحكمة في هذه القضية، أيد هذا القرار). وبالإضافة إلى ذلك، شكلت جرائم التجويع جزءاً رئيساً من لوائح الاتهام التي وجهتها "المحكمة الجنائية الدولية" إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وغالانت، الذي استقال من منصب وزير الدفاع في كانون الثاني (يناير) الماضي. وقد برزت جرائم عرقلة المساعدات، والتجويع، والتهجير القسري، والهجمات على الخدمات الصحية باعتبارها عناصر محورية في التقرير الذي صدر في أيلول (سبتمبر) 2025 بعد تحقيق أجرته الأمم المتحدة، خلص إلى أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة. وعلى الرغم من رفض الحكومة الإسرائيلية لها، فإن كل هذه الأحكام والقرارات قد تجعل من الصعب على إسرائيل التنصل كلياً من مسؤوليتها المتعلقة بضمان تدفق المساعدات بشكل كافٍ أثناء تنفيذ الاتفاق.
المساندة الأميركية
حتى لو سمحت إسرائيل بتحسين وصول المساعدات، فإن التحديات تظل هائلة. ومن أجل إحداث تأثير فعلي في أزمة غزة الإنسانية المتفاقمة، يجب أن يحظى نظام الإغاثة والمعونات المُعاد تنشيطه بقيادة الأمم المتحدة بدعم دبلوماسي موثوق يحول دون أي عرقلة أو تحويل للمساعدات. يجب السماح للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الكبرى بتوزيع المساعدات من دون أي تدخل، تماماً كما كان الحال بعد وقف إطلاق النار في كانون الثاني (يناير) 2025 الذي استمر حتى آذار (مارس) الماضي. وسواء كان ذلك من خلال (الأونروا) أو هيكل قيادي أممي مختلف، يجب على الأمم المتحدة أن تتولى قيادة وتنفيذ جهود الإغاثة والتعافي. ببساطة، لا يوجد بديل فعال لهذا النظام، وهو ما يبدو أن خطة ترامب تعترف به، وقد أكدته "محكمة العدل الدولية" مجدداً في رأي استشاري جديد يأمر إسرائيل بالسماح لوكالات الأمم المتحدة بتقديم المساعدات إلى غزة. فقد عملت هذه الوكالات إلى جانب المنظمات غير الحكومية في غزة لعقود، وهي تمتلك نطاق وصول وقدرة وثقة مجتمعية لا يمكن لأي جهة أخرى مضاهاتها.
في هذا السياق، لدى مركز التنسيق المدني العسكري الأميركي الجديد، الذي يسانده 200 جندي أميركي، القدرة على أداء دور حاسم في المراقبة والدعم، وضمان عدم عرقلة إيصال المساعدات. ولكن يجب على هذا المركز ألا يحاول أن يحل مكان الدور القيادي والتنسيقي الحيوي الذي يضطلع به نظام الأمم المتحدة، أو أن يسمح لإسرائيل بفعل ذلك. وقد أثبتت محاولة إسرائيل في وقت سابق من هذا العام تجاوز الأمم المتحدة واستبدالها بـ"مؤسسة غزة الإنسانية"، وهي منظمة يديرها مقاولون عسكريون خاصون تحت إشراف جيش الدفاع الإسرائيلي، أنها كارثة أسفرت عن مقتل آلاف الفلسطينيين الذين كانوا في أمس الحاجة إلى الغذاء. وعلى الرغم من أن "مؤسسة غزة الإنسانية" علّقت أنشطتها الآن، من المرجح أن تسعى إسرائيل إلى إيجاد وسائل أخرى للسيطرة على عملية الإغاثة أو تقييدها. وقد فرضت الحكومة الإسرائيلية طوال فترة الحرب قيوداً مشددة على نوعية المواد التي يمكن إدخالها، وعلى الجهات التي يُسمح لها بإدخالها، وغالباً ما وصلت هذه القيود إلى حد العبثية. وأفادت مجموعات الإغاثة بأن المفتشين الإسرائيليين رفضوا دخول قوافل مساعدات إذا كانت تحتوي على حقن إلى جانب مواد إغاثة أخرى، كما رفضوا دخول مجموعة من الإمدادات الحيوية، بدءاً من مواد التخدير وصولاً إلى الخيام ومواد معالجة المياه. وقد أخبرني أحد الأطباء أن حرس الحدود الإسرائيليين صادروا منه عبوة أسبرين عندما دخل في مهمة طبية. وبالإضافة إلى ذلك، خارج فترات وقف إطلاق النار القصيرة، سيطرت الحكومة الإسرائيلية بشكل صارم على تحركات منظمات الإغاثة داخل غزة، ورفضت طلبات التنقل بشكل متكرر أو وجهت القوافل عبر مناطق غير آمنة أو غير سالكة.
في الواقع، تُقدم الأزمات السابقة دروساً مهمة حول كيفية التعامل مع هذا النوع من العرقلة. أولاً، من الضروري وجود وسيط موثوق يمتلك قوة حقيقية لضمان عدم قيام أحد أطراف النزاع بعرقلة المساعدات. وهناك سوابق عديدة لذلك. بصفتي رئيساً لمكتب المساعدات الخارجية في حالات الكوارث في "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (USAID)، كنتُ قد توسطتُ في إنشاء آلية من هذا النوع في اليمن وفي سورية، حيث تولت الأمم المتحدة تفتيش المساعدات المتجهة إلى شمال سورية الخاضع لسيطرة المعارضة. هذا النهج، الذي يتيح تدفق المساعدات بطريقة آمنة يمكن التحقق منها ومن دون تدخل أي من الأطراف المتحاربة خلال النزاع أو في مرحلة ما بعد النزاع، مطلوب على وجه السرعة في حالة غزة أيضاً.
بغض النظر عما إذا كانت إسرائيل ستسمح لوكالات الأمم المتحدة بالعمل في غزة أم لا، من غير المرجح أن توافق على أن تكون الأمم المتحدة هي جهة التحكيم الرئيسة المشرفة على عملية الإغاثة. لكن إسرائيل أظهرت قدرتها على التعاون مع الولايات المتحدة ومع شركاء في الخليج. ويجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لإدانة أي انتهاك للاتفاق من أي طرف كان، كما يجب على مركز التنسيق المدني والعسكري الجديد أن يستغل موقعه لدعم وتسهيل عمل منظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، لا للتحكم في عملها مباشرة. وهناك سابقة موجودة بالفعل: نشرت إدارة بايدن رصيفاً عسكرياً مؤقتاً لتسليم المساعدات إلى غزة في العام الماضي. وعلى الرغم من أن الرصيف نفسه فشل في أداء عمله وجرى تفكيكه في النهاية، فإن قدرة الجيش الأميركي على التنسيق مع جيش الدفاع الإسرائيلي والإشراف على توزيع المساعدات أسهمت في الحد من العرقلة الإسرائيلية. وبالاستفادة من تلك التجربة، يمكن لجهة رقابة مستقلة تُشرف عليها الولايات المتحدة وشركاء إقليميون آخرون أن توفر مستوى مهماً من المساءلة بشأن إيصال المساعدات إلى غزة بعد الحرب، وأن تضمن الالتزام بمعايير وصول المساعدات المنصوص عليها في الاتفاق.
علاوة على ذلك، يجب أن يتجاوز الدعم الأميركي لعملية الإغاثة مجرد إحصاء أعداد الشاحنات. لن تجعل الكميات الكبيرة من الغذاء والدواء وحدها غزة صالحة للعيش من جديد. يجب أن تعمل جهود الإغاثة الدولية على وقف المجاعة والقضاء عليها؛ وإعادة تأهيل خدمات الصحة والصرف الصحي بكامل طاقتها في جميع أنحاء القطاع؛ وضمان حصول سكان غزة على المياه النظيفة والمأوى الآمن. إن غزة في حاجة ماسة إلى مواد لطالما أعاقت الحكومة الإسرائيلية إدخالها، على غرار مستلزمات الإيواء في حالات الطوارئ، ومواد إعادة بناء البنية التحتية؛ والإمدادات الطبية؛ والوقود وتوليد الطاقة، وغيرها. وإلى جانب إدخال مجموعة أوسع من المساعدات ولوازم إعادة التأهيل، يجب السماح لمنظمات الإغاثة بالعمل بأمان ومن دون عوائق. وعلاوة على ذلك، ستحتاج هذه المنظمات إلى زيادة كبيرة في التمويل الجديد من الدول المانحة، الذي كان بطيئاً حتى الآن. كما ستحتاج إلى مزيد من الاستقرار داخل غزة للحد من مشكلات النهب التي انتشرت على نطاق واسع خلال العام الماضي.
سوف تكون إعادة فرض الأمن أمراً أساسياً. فقد ارتفعت معدلات الجريمة في جميع أنحاء القطاع خلال الحرب؛ ويُعزى جزء منها إلى الدعم العسكري الإسرائيلي لعصابات عشائرية قامت بنهب قوافل المساعدات بشكل ممنهج. كما أن حملة الانتقام التي شنتها "حماس" ضد بعض هذه العصابات منذ وقف إطلاق النار خلقت تحديات جديدة. ومن الجدير بالذكر أن انعدام الأمن واليأس الشديد لدى السكان يعنيان أنه من المحتمل حدوث نهب واسع النطاق وظهور ما يسمى "التوزيع الذاتي" للمساعدات خلال الأسابيع الأولى من تدفق المساعدات. وقد حدثت هذه المشكلات أيضاً في الأسابيع الأولى من وقف إطلاق النار السابق، الذي استمر من كانون الثاني (يناير) إلى آذار (مارس) من العام الحالي؛ ولكن بمجرد أن وصل حجم المساعدات إلى مستوى متوازن مع احتياجات السكان، خفت حدة النهب. ومن المرجح أن يتكرر النمط نفسه الآن، وقد ظهرت بالفعل بعض المؤشرات الأولية على تراجع في ظاهرة النهب.
يجب أيضاً منع "حماس" من تحويل وجهة المساعدات الإنسانية أو التلاعب بها، على الرغم من عدم وجود أدلة تُذكر على حدوث ذلك على نطاق واسع. كثيراً ما استخدمت إسرائيل مزاعم نهب "حماس" للمساعدات كذريعة لفرض قيودها الخاصة على إيصال المساعدات، لكنها لم تقدم أي أدلة تثبت هذه المزاعم التي دحضتها مراجعات دولية متعاقبة عدة، ومسؤولون أميركيون سابقون، بمن فيهم جاكوب لو، الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل في عهد بايدن.
الاستعداد التام والانتظار
بعد عامين من الحرب التي اتسمت بالعنف غير المبرر والمجاعة والعرقلة الممنهجة للمساعدات، قد تتاح لغزة أخيراً فرصة لالتقاط أنفاسها. ويعد التدفق الهائل للمساعدات الإنسانية الضرورية واجباً أخلاقياً، وضرورة استراتيجية في ضوء بنية اتفاق السلام. وإذا عجز ضامنو الاتفاق عن ضمان إيصال المساعدات، فقد يؤدي ذلك إلى انهيار وقف إطلاق النار نفسه. وحتى لو صمد الاتفاق، فإن الفشل في تحقيق الأهداف الإنسانية سيدفع بمزيد من الفلسطينيين نحو المجاعة، ويفاقم الخسائر البشرية المروعة أصلاً.
في الواقع، يمكن تجنب أسوأ النتائج. ولكن من أجل الاستفادة من الانفراج المؤقت الذي أتاحه الاتفاق، سيتعين على الضامنين حماية عمليات الإغاثة من التلاعب السياسي الذي أعاقها منذ بداية الحرب. وستكون الرقابة والمساءلة عنصرين حاسمين، ويمكن تحقيقهما على أفضل وجه إذا أنشأت الولايات المتحدة وشركاؤها الإقليميون والأوروبيون آلية تنسيق وإشراف موثوقة وقوية تضمن تنفيذ الأحكام الإنسانية في الاتفاق. والأهم من ذلك كله، يجب السماح للأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية المتعددة، التي تمتلك سنوات من الخبرة في غزة، إضافة إلى الموارد والأدوات اللازمة، بأداء وظائفها أخيراً. من خلال وضع ملف المساعدات في صميم اتفاقها، أعادت إدارة ترامب إحياء الأمل في إمكانية قلب مسار الأزمة أخيراً. ولكن لا يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا مُنح العاملون في المجال الإنساني إمكانية الوصول غير المقيدة والسلامة والدعم الذي يحتاجون إليه.
 
 
*جيريمي كونايندايك: هو رئيس "منظمة اللاجئين الدولية" Refugees International والرئيس السابق لمكتب المساعدات الخارجية في حالات الكوارث في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. الترجمة لصحيفة "الإندبندنت"، حيث نشرت في 2025/10/26.