الراي
للوهلة الأولى يبدو أن الحراك الذي شهدته مدن كثيرة في مختلف أنحاء العالم، المتمثل في التظاهرات والمسيرات الحاشدة والاعتصامات ، للمطالبة بوقف حرب الابادة الجماعية والتجويع ، التي تشنها قوات الاحتلال على قطاع غزة وكأنها زوبعة في فنجان، ذلك أنها لم تحدث أثرا جديا يقلب المعادلات السياسية، لدى السلطات الرسمية الحاكمة في بلدانها ، لكن هذه قراءة تبدو سطحية ، ذلك أن المشكلة هنا تكمن بحسابات السلطة الحاكمة ومدى تأثيرها السياسي وعلاقاتها الدولية والاقليمية ، وبضمن ذلك علاقاتها مع دولة الاحتلال ، دون تجاهل حقيقة أن السياسة تحركها في كثير من الأحيان الأكاذيب والنفاق وتضارب المصالح !
من حيث المبدأ تستخدم قوات الاحتلال القوة الغاشمة ، مستخدمة أحدث الأسلحة التي تحرق الأخضر واليابس بالاضافة الى الريبوتات المتفجرة ، التي تستهدف تدمير المنازل وتقتل من هو قريب منها ، مقابل أسلحة بسيطة يقاتل بها المقاومون الفلسطينيون .
والثابت أيضا أن الحراك الدولي الواسع المطالب بوقف "المحرقة"، التي تستهدف المدنيين العزل في قطاع غزة، حركت المياه الراكدة في السياسة الدولية ، وأحدثت تحولا مهما في توجهات الرأي العام في مختلف دول العالم ، وبخاصة المجتمعات الأوروبية التي كانت حكوماتها تدعم الكيان الصهيوني ، مثل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية مؤخرا ، فلم يتخيل أحد أن بريطانيا صاحبة"وعد بلفور"، الذي سجل سابقة تاريخية بمنح اليهود ما سمي" وطنا قوميا" في فلسطين، يمكن أن تعترف بالدولة الفلسطينية حتى لو كانت دولة لا تزال على الورق ؟
وثمة نموذج اخر على قوة الرأي العام الدولي ، تمثل ب " أسطول الصمود العالمي" الذي تكون من حوالي 50 سفينة ، وكان على متنه نشطاء ونقابيون وبرلمانيون وحقوقيون من عشرات الدول ، وكان حديث وسائل الاعلام لفترة تقارب الشهر، وانطلق من برشلونة وفي اسبانيا وتوقف في العديد من الموانئ ، وكان عنوانه الأساسي كسر الحصار الاسرائيلي المفروض على قطاع غزة ، وهو ثالث محاولة في هذا الصدد لكنه كان الأكبر من حيث عدد السفن .
وكان المنظمون لهذا الأسطول يدركون أن سلطات الاحتلال ، لن تسمح له بالوصول الى شواطئ قطاع غزة ، كما فعلت في المحاولات السابقة ، لكن اصرار النشطاء على مواصلة الابحار كان الهدف منه ايصال رسالة الى الرأي العام الدولي وحكومات العالم ، بأن الضمير الانساني لا يزال ينبض ضد الظلم والعدوان ، والجرائم المروعة التي ترتكبها قوات الاحتلال في قطاع غزة، وتسببت بعذابات هائلة لسكان القطاع الذين ينزحون من مكان الى آخر، وتلاحقهم قوات وطائرات الاحتلال بالقصف الوحشي ، حتى وهم يفترشون الأرض ولا يجدون مأوى في ظروف كارثية!.
وبالفعل أحدث هذا الأسطول ضجة دولية واسعة ، من حيث التغطية الاعلامية في مختلف الصحف ووسائل الاعلام الدولية ووسائل التواصل الاجتماعي ، ونتج عن هذا الاهتمام الواسع أن ترسخ في الضمير الانساني وثقافة الشعوب ، في مختلف القارات قضية فلسطين وما تتعرض له غزة من حرب ابادة متواصلة منذ سنتين.
وفي كل الأحوال يمكن القول ان دولة الاحتلال بدت معزولة دبلوماسيا وسياسيا ، بصورة لم تشهدها منذ نشوئها عام 1948 ، بسبب المجازر التي ارتكبتها في قطاع غزة ، وهذه أهم نتائج العدوان على قطاع غزة وما تتعرض له الضفة الغربية أيضا ، من انتهاكات صارخة ومداهمات وعمليات قتل وتوسيع للمستوطنات .
ومنذ 7 اكتوبر -تشرين الأول عام 2023 ، احتلت القضية مكانة أساسية في السياسة الدولية ، في منابر الأمم المتحدة المتمثلة بالجمعية العامة ومجلس الأمن الدولي، الذي كانت مشاريع القرارات التي تعرض عليه ، وتدعو لوقف العدوان على قطاع غزة تقابل بفيتو أميركي ، بالاضافة الى اهتمام منظمات حقوق الانسان ، والدعاوى أمام المحاكم الدولية مثل محكمة العدل الدولية ، حيث رفعت جنوب افريقيا دعوى ضد اسرائيل بتهمة الابادة الجامعية ثم التحقت بها دول عديدة ، وأمام محكمة الجنايات الدولية التي أصدرت قرارا بتوقيف رئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت.