"المكابرة" بين الأزواج.. حين تتحول لجدار صامت يهدم البيوت
الغد-ربى الرياحي
في الحياة الزوجية لا تنشأ الأزمات غالبا من الخلافات نفسها بل من الطريقة التي تدار بها.
ومن أبرز السلوكيات التي تتسلل بصمت إلى قلب العلاقة الزوجية المكابرة، ويقصد بها الإصرار على العناد ورفض الاعتراف بالخطأ أو تقديم التنازل وكأن الاعتراف ينقص من قيمة الشريك أو مكانته داخل البيت.
الخطورة تكمن في أن المكابرة لا تترك ندوبا واضحة في البداية لكنها تضعف أساس العلاقة على المدى الطويل. فهي تؤدي إلى تراكم المشاعر السلبية وتبني جدرانا من الصمت والبرود بين الطرفين.
غياب اللغة المشتركة بالحوار
تعيش سندس ( 33 عاما) مع زوجها أزمة كبيرة بسبب العناد والمكابرة، الأمر الذي جعلها مفتقدة للراحة، أخطاء متكررة وصعوبة في إيجاد لغة مشتركة بينهما والمبرر لكل ذلك هو الكرامة، تقول الحياة بينهما باتت باردة يغيب عنها الحنان والاحتواء.
هذا كله جعلهما يدخلان في لعبة غير معلنة يرفضان من خلالها المبادرة بالاعتذار أو حتى الكلام، وبالتالي تصبح الخلافات الصغيرة اختبارات يومية للكرامة بدلا من البحث عن حلول تمنح العلاقة استقرارا حقيقيا مبنيا على الوضوح والمصارحة.
وكريم هو أيضا يجد نفسه في علاقة زوجية مرهقة خالية من الود والاحترام، مبينا أنه يعيش غربة حقيقية داخل بيته، شعوره بأنه وحيد يتضاعف يوميا فالحديث بينه وبين زوجته يكاد يكون معدوما، وأي محاولة للتقارب تواجه بالبرود كنوع من العقاب للطرف الآخر.
يقول؛ بعد كل خلاف يحدث بينهما يظل متوقعا من زوجته أن تبادر بالصلح متغلبة على كل شيء من شأنه أن يؤدي بهما إلى الهاوية وكأن الاعتراف بالخطأ دليل ضعف. لكن ما يحدث هو العكس يطول الخصام بينهما على تفاصيل سطحية تتحول مع الوقت إلى حواجز نفسية.
إستراتيجية دفاعية معقدة ينتهجها الأزواج
وتبين الاستشارية النفسية الأسرية والتربوية حنين البطوش أن المكابرة في العلاقات تعد إستراتيجية دفاعية معقدة، غالبًا ما تنبع من دوافع نفسية عميقة، حيث يميل بعض الأفراد إلى هذا السلوك خوفًا من الضعف أو التعرض للانتقاد، حيث يرى في التعبير عن المشاعر أو الاحتياجات عجزًا محتملاً قد يفقده مكانته في العلاقة، قد يكون هذا النمط السلوكي ناتجًا عن تجارب سابقة رسخت لديه فكرة أن الانفتاح العاطفي قد يؤدي إلى الرفض أو الاستغلال.
وفي بعض الأحيان، تبين البطوش أن المكابرة محاولة للحفاظ على صورة ذاتية مثالية أو لتجنب أي مواجهة قد تكشف عن عيوب شخصية، بالتالي يصبح الصمت جدارًا واقيًا يختبئ خلفه الفرد، معتقدًا أنه بذلك يحمي نفسه من الألم أو الخيبة.
كتم المشاعر وعدم التعبير عنها بصدق أمام الأبناء يُعدّ بمثابة تربية صامتة تحمل في طياتها آثارًا سلبية عميقة، حيث يتعلم الأطفال من خلال مراقبة والديهم أن التعبير عن المشاعر هو شيء خطير أو غير مرغوب فيه، فهذا النمط السلوكي يرسخ لديهم فكرة أن الصمت هو الحل لمشاكل الحياة، مما يؤدي إلى صعوبة في التواصل العاطفي لديهم في المستقبل.
القدرة على مواجهة الأخطاء
في سياق العلاقات الزوجية، تقول البطوش إن الاعتراف بالخطأ هو دليل على القوة والوعي الذاتي، وإن القدرة على مواجهة أخطائنا وتقبل مسؤوليتها تتطلب شجاعة نفسية كبيرة، فهذا السلوك يعكس نضجًا عاطفيًا، حيث يظهر الشريك أنه يقدّر العلاقة ومشاعر الطرف الآخر أكثر من غروره الشخصي، فالاعتراف بالخطأ يفتح الباب أمام الحوار الصادق، ويعزز الثقة المتبادلة، ويجد بيئة آمنة للنمو والتطور المشترك، حيث إنه يرسخ مبدأ أن الأخطاء جزء طبيعي من التجربة الإنسانية، وأن تجاوزها معًا هو جوهر الشراكة الحقيقية. وتنوه البطوش أن الاعتراف بالخطأ أمام الأبناء يُعدّ خطوة تربوية حيوية، فهو يكسر الصورة النمطية للوالد الذي لا يخطئ، ويقدم نموذجًا واقعيًا وإنسانيًا يرسخ في أذهانهم أن الخطأ جزء طبيعي من الحياة، فعندما يرى الأبناء أحد والديهم يعتذر عن خطأ ارتكبه، فإنهم يتعلمون أن الاعتذار لا يقلل من القيمة الشخصية، بل هو دليل على القوة الداخلية والمسؤولية.
وتؤشر البطوش إلى الفرق بين الكرامة الصحية والمكابرة يكمن في الدافع والنتائج، فالكرامة الصحية هي احترام الذات والوعي بقيمتها، فهي تدفع الفرد للحفاظ على حقوقه في العلاقة دون إضرار بالآخر، حيث إنها تمنعه من قبول الإهانات أو التجاوزات التي لا تليق، ولكنها في الوقت نفسه لا تمنعه من الاعتذار عندما يخطئ أو التعبير عن احتياجاته، أما المكابرة المبالغ فيها فهي سلوك أناني، حيث يرفض الفرد التنازل أو الاعتذار حتى وإن كان على خطأ، حيث دافعها هو الخوف من فقدان السيطرة أو الاعتراف بالضعف.
وتشير البطوش إلى أنه غالبًا ما ينبع الامتناع عن الاعتذار من مزيج معقد من الخوف من فقدان السيطرة والخوف من الانتقاص من القيمة الذاتية، حيث يعتقد آخرون أن الاعتذار يمثل استسلامًا، وقد يمنح الطرف الآخر سلطة أو قوة عليهم في المستقبل، ويرون في الاعتراف بالخطأ بداية لسلسلة من التنازلات التي قد تضعهم في موقف ضعف، ومن ناحية أخرى، وهو الدافع الأكثر شيوعًا، يربط الفرد بين اعترافه بالخطأ وقيمته الشخصية، فيتصور أن الاعتذار يجعله أقل شأنًا أو أن شخصيته غير مكتملة، مما يدفعه إلى المكابرة.
التراكمات وارتفاع مستويات التوتر
لا تقتصر آثار المكابرة وكبت المشاعر على البعد العاطفي فقط، بل تمتد لتنعكس بوضوح على الصحة النفسية والجسدية، فالتراكم المستمر للمشاعر غير المعبَّر عنها يؤدي إلى ارتفاع مستويات التوتر والضغط النفسي، مما قد يظهر في صورة صداع مزمن، أرق، توتر عضلي، واضطرابات هضمية، فضلًا عن زيادة احتمالية الإصابة بأمراض مرتبطة بالإجهاد مثل ارتفاع ضغط الدم أو ضعف المناعة.
في المقابل يُعدّ الاعتراف بالمشاعر والتنفيس العاطفي وسيلة فعّالة لتحسين الصحة العامة، حيث يعمل على خفض مستويات القلق والتوتر، ويُعيد للجسم توازنه النفسي–الفيزيولوجي.
ويشير الاختصاصي الاجتماعي مفيد سرحان إلى أن العلاقات بين الناس عموما لا تخلو من الأخطاء. لذلك لا بد أن تتصف العلاقة بين الزوجين بقدر كبير من التغافل والتسامح. وهذا لا يعني تعمد أحدهما الإساءة للآخر. أو التمادي في الإهانة.
لأن احترام الزوج لزوجته والزوجة لزوجها يعني احترام كل منهما لنفسه.
والاحترام مطلوب منهما في كل التعاملات سواء أكانت بينهما، أو بوجود الأبناء أو أمام الآخرين.
وفي حال ارتكاب الإنسان خطأ فإن من أعظم الفضائل المبادرة بالاعتذار عن الخطأ.
وهذا ينطبق على جميع الأشخاص، وهو بين الزوجين أكثر حاجة لأن العلاقة الزوجية السليمة تعني الاستمرارية والديمومة، ولأن الراحة النفسية تؤدي إلى الاستقرار، وتنعكس إيجابيا على الزوجين والأبناء.
والاعتذار من الصفات الحميدة وهو من أرفع الأخلاق مثل العفو والتسامح والكرم. وهو دليل الوعي والثقة بالنفس واحترام الآخرين والحرص على العلاقة معهم، ويسهم في تقوية علاقاتنا الشخصية ببعضنا بعضا. والاعتذار ليس ضعفاً بل هو دليل قوة الشخصية.
والاعتذار يعني الاعتراف بالخطأ، والتراجع عنه، بحسب سرحان، وفهم مشاعر الآخرين وطلب الصفح منهم. وقد تتسبب المكابرة وعدم تقديم الاعتذار بمشاكل كثيرة، وقد تتطور إلى قطيعة بين الزوجين وقد تصل إلى الطلاق.
المكابرة ورفض الاعتذار دليلا ضعف
ويعتقد كثيرون، بحسب سرحان، أن الاعتذار نقطة ضعف لا يجب إظهارها، كونها دليل انكسار وهزيمة لا تليق بهم. وفي الحقيقة أن الاعتذار ليس دليل ضعف أو فشل، كي نخجل منه لأن الاعتذار، هو اعتراف بالخطأ ورجوع عنه، وهو يعني ترجمة هذا الشعور إلى فعل ملموس. فلا يعيب الزوج أن يعتذر لزوجته أو أن تعتذر الزوجة لزوجها. وكذلك ان يعتذر الكبير من الصغير أو الغني من الفقير أو المسؤول ممن هو مسؤول عنه.
ويرى سرحان ان الاعتذار في حقيقته ليس كلمة تقال وهو وليس تبرير للخطأ، أو البحث عن مخرج. ونوع الاعتذار لا بد وأن يتناسب مع نوع الخطأ وحجمه.
الصدق بالاعتذار وحسن الأسلوب
ومن شروط الاعتذار يقول سرحان سرعة المبادرة بالاعتذار، وعدم محاولة تبرير الخطأ، والصدق في الاعتذار، وعدم التعالي أو التلاعب بالكلمات، واختيار الوقت والأسلوب بخدمات. فقد تكون نية بعضهم بالاعتذار صادقة، لكن طريقة الاعتذار ربما تزيد الأمر سوءاً، فتفاقم المشكلة بدلا من حلها، والسبب في ذلك الجهل بثقافة الاعتذار وطريقة الاعتذار، أو عدم فهم نفسية الآخر.
والإدراك بأن الاعتراف بالخطأ فضيلة، والاعتذار عنه فضيلة أخرى، وهي تعزز الحفاظ على روابط الألفة والمحبة بين الزوجين الناس عامة، والاعتذار يساهم في عدم تطور الخصومة وتفاقم المشكلات.
ويستغرب سرحان من أن بعضهم لا يتردد بالاعتذار لشخص غريب، لكنه لا يعتذر لقريب أو صديق. باعتبار أن هؤلاء عليهم تحمل وقبول الأخطاء والزلات. وبعض الأزواج يكابرون كثيرا ويعتقدون أن من واجب الزوجة أن تتحمل كل ما يصدر عنه. وهذا فهم خاطئ. أولى الناس بالاعتذار هم الأكثر قربا والأكثر تعاملا، حتى لا تتراكم الترسبات في النفوس وتتحول إلى بغضاء.
وكذلك أن يشعر الطرف الآخر بالصدق في الاعتذار، وعدم التعالي أو التلاعب بالكلمات، واختيا الطريقة والوقت المناسبين.
وكما أن الاعتذار واجب، فإن قبول الاعتذار والصفح كذلك، لأنه خلق الكرماء والنبلاء، وقبول اعتذار المعتذر لا يعني قبولاً بالأمر الواقع، بل هو تسامح وحسن خلق وحفظ للود وروابط الأخوة والصداقة.
وتبقى المكابرة ضعف وتدمر العلاقات الزوجية وهي جدار عازل نصنعه بأيدينا. يعزلنا عن أقرب الناس إلينا وجدار يعزل الإنسان عن نفسه. وهي أيضا تضعف العلاقات وتزيد من الحواجز النفسية، وتؤثر على العواطف المتبادلة.