الحاجة إلى إطار قانوني ينظم استطلاعات الرأي*أ. د. ليث كمال نصراوين
الراي
أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية قبل أيام أن نحو سبعين في المئة من الأردنيين يثقون بحكومة الدكتور جعفر حسان، وهي نتيجة إيجابية تعبّر عن مستوى مرتفع من الثقة العامة في أداء الحكومة بعد مرور عام على تشكيلها، وتعكس في الوقت ذاته اهتمامًا متزايدًا من الرأي العام الأردني بمتابعة عمل السلطة التنفيذية وتقييمه بصورة دورية ومستمرة.
ويُعدّ هذا المركز الوطني من المؤسسات البحثية الرائدة التي شكّلت، وعلى الدوام، نموذجًا بحثيًا رصينًا في المنهجية والشفافية، سواء في تصميم العينة أو في عرض النتائج للرأي العام. فالجامعة الأردنية، بوصفها مؤسسة أكاديمية عريقة، استطاعت من خلال مركز دراساتها الاستراتيجية أن ترسّخ ثقة المواطنين بموضوعية استطلاعاتها ودقّة أدواتها البحثية.
وفي المقابل، تزداد المخاوف من الاستطلاعات التي تُجرى من قبل جهات أو مراكز بحثية غير متخصصة، أو تلك التي لا تخضع لإشراف علمي مؤسسي، لما قد ينجم عنها من نتائج غير دقيقة أو ذات توجّه دعائي قد يضلّل الرأي العام. من هنا، يثور التساؤل الأبرز حول مدى وجود إطار قانوني ينظّم استطلاعات الرأي في الأردن، يكفل الموضوعية والشفافية في إجرائها، ويحدّد شروط الممارسة والمسؤولية في هذا المجال الحيوي، خاصة وأن نطاقها يتّسع ليشمل السلطات العاملة، ويرتبط بفترات زمنية متتابعة لتقييم أدائها والعلاقة التفاعلية فيما بينها.
وتزداد أهمية إيجاد تأطير قانوني لاستطلاعات الرأي لارتباطها الوثيق بعدد من الحقوق الدستورية الأساسية، أهمها حرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور لكل أردني، وحرية البحث العلمي التي أوجب المشرّع الدستوري على الدولة كفالتها في المادة (15)، فضلًا عن حق الأردنيين في مخاطبة السلطات العامة المقرر في المادة (17) من الدستور.
وقد تنبّهت الدول الديمقراطية المتقدمة إلى أهمية هذا الجانب، فبادرت إلى وضع أطر قانونية واضحة تحكم استطلاعات الرأي العام. ففي فرنسا، صدر قانون خاص عام 1977 بشأن نشر وتوزيع استطلاعات الرأي ذات الطابع الانتخابي، وأنشأ لجنة وطنية تتولى مراقبة منهجية هذه الاستطلاعات لضمان حياديتها وشفافيتها.
أما في المملكة المتحدة، فقد صدرت مدونة خاصة بممارسة الأبحاث الاجتماعية الحكومية، ووثيقة مكتوبة بالمبادئ التي تدعم نزاهة الأعمال البحثية، واللتين تفرضان معايير مهنية صارمة على الدراسات والاستطلاعات المموّلة من المال العام، وتلزمان الجهات الحكومية بنشر نتائجها بشفافية على المنصات الرسمية.
وفي استراليا، تتولى هيئة وطنية تدقيق ومراجعة العقود الحكومية كافة، بما في ذلك تلك المتعلقة بالأبحاث واستطلاعات الرأي، كما صدرت مدونة سلوك تفرض على الجهات المستطلعة الإفصاح عن المنهجية والأسئلة والعينة المستخدمة في أي استطلاع يُنشر للرأي العام، بما يضمن استقلالية وموضوعية النتائج.
وعربيًا، شهدت تونس في عام 2017 محاولة تشريعية متقدمة تمثّلت في تقديم مقترح قانون لتنظيم الآراء واستطلاعات الرأي، نصّ على إنشاء هيئة وطنية مستقلة تُعنى بمراقبة هذا النشاط والإشراف عليه، بما يضمن التزام الجهات المستطلعة بالحياد والشفافية والمنهجية العلمية في أعمالها. إلا أن هذا القانون لم يرَ النور بعد، وإن ظلّ خطوة رائدة في الاتجاه نحو تنظيم مؤسسي لهذا المجال على المستوى العربي.
إن هذه النماذج المقارنة التي وضعت قواعد قانونية واضحة لتنظيم استطلاعات الرأي تسهم في تعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع، وتدعم مبدأي المشروعية والشفافية في العمل العام. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن الأردن بات بحاجة إلى إطار تشريعي خاص ينظم استطلاعات الرأي العام، يحدد الجهات المرخّصة لإجرائها ضمن مراكز الأبحاث والدراسات المعتمدة، ويضع معايير موحدة تضمن الموضوعية والحياد في تصميم العينة وتحليل البيانات، مع إلزامية نشر النتائج بصورتها النهائية.
إن استطلاعات الرأي، متى أُجريت وفق معايير مهنية وتحت مظلة قانونية واضحة، تصبح وسيلة فاعلة لدعم عملية صنع القرار وتعزيز المشاركة الشعبية في إدارة الشأن العام. فهي لا تعكس فقط توجهات المواطنين، بل تؤكد أيضًا حرص الدولة على الإصغاء إليهم في إطار من الاحترام والشفافية. فالحكومة التي تُصغي إلى رأي الناس وتعلن نتائجه كما هو، إنما تؤكد التزامها بالمشروعية والثقة، وهما الركيزتان اللتان يقوم عليهما الحكم الدستوري الرشيد.
ولعل وجود مراكز بحثية وطنية رصينة، كمركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، يشكّل ركيزة أساسية لأي تنظيم قانوني مقبل لاستطلاعات الرأي، إذ يوفّر النموذج المؤسسي الذي يمكن البناء عليه لتطوير بيئة بحثية وطنية تستند إلى المعايير العلمية والشفافية وتخدم المصلحة العامة.