"تأجيل النوم الانتقامي".. استراحة "خادعة" تنهك الجسد وتشتت العقل
الغد-تغريد السعايدة
تشير الساعة إلى الثانية فجرا، وغدير ما زالت مستغرقة في تصفح شاشة هاتفها. بالرغم من حاجتها الماسة إلى ساعات من الراحة بعد يوم طويل وشاق بين العمل والمنزل، إلا أنها تصر على البقاء مستيقظة لأطول فترة ممكنة، متجنبة النوم مبكرا.
وفي كل مرة تستيقظ صباحا، تردد غدير أنها "ستتخلى عن هذه العادة وتنام مبكرا قدر ما تستطيع"، لكن مع حلول الليل، تعود إلى نفس السلوك؛ إذ تجلس على سريرها تتصفح هاتفها متبادلة مقاطع "الريلز" مع صديقاتها حتى قبيل الفجر، وذلك على الرغم من شعورها بالتعب الشديد، بحسب تعبيرها.
هذه الحالة ليست عابرة، إذ أظهرت آلاف التعليقات حول هذا الموضوع تكرار التجربة ذاتها لدى كثيرين، بل إن نسبة منهم ينتظرون حتى "شروق الشمس" في محاولة لكسب ساعات راحة إضافية خالية من ضوضاء الأبناء ومتطلباتهم، أو صخب السيارات ومشاغل الحياة اليومية.
شعور باستعادة الوقت الضائع
هذه الظاهرة، في علم النفس، تعرف بـ"تأجيل النوم الانتقامي" (Revenge Bedtime Procrastination)، ووفقا للدراسات، يُقصد بذلك أن الأفراد يتعمدون تأخير نومهم رغم شعورهم بالتعب، وذلك رغبة منهم في استعادة بعض الوقت الشخصي والتحكم فيه بعد يوم طويل ومرهق.
يوضح اختصاصي أول الطب النفسي وعلاج الإدمان الدكتور عبدالله أبو دنون أن هذه الحالة يمكن أن يتعرض لها فئات محددة أكثر من غيرها، كما في الأشخاص الذين يعملون لساعات طويلة أو في وظائف مرهقة، أو الطلاب أثناء فترات الامتحانات، والأمهات أو الآباء الذين لا يجدون وقتا لأنفسهم نهارا، وأيضا من يعانون من الاحتراق النفسي (Burnout) أو القلق المزمن والاكتئاب.
وقد يؤدي هذا السلوك إلى آثار سلبية عديدة على الفرد، حتى لو ظن الشخص أنه يكسب وقتا إضافيا للراحة والاسترخاء بتأجيل نومه. ويوضح أبو دنون أن الآثار السلبية لتأجيل النوم الانتقامي تشمل: "ضعف الأداء المعرفي والفكري، وانخفاض الانتباه والتركيز في صباح اليوم التالي مما ينتج عنه أخطاء في العمل أو الدراسة، وبطء في معالجة المعلومات واتخاذ القرارات، بالإضافة إلى ضعف الذاكرة قصيرة المدى (صعوبة تذكر المعلومات التي تعلمتها في اليوم السابق)".
إلى ذلك، فإن هذا من يتسبب باضطراب المزاج وزيادة القلق والاكتئاب، فالنوم غير الكافي يزيد حساسية الدماغ للمحفزات السلبية مما يؤدي إلى مزاج مكتئب، تهيج، نوبات غضب صغيرة، وتراكم الحرمان من النوم مرتبط بزيادة نسبة القلق العام واضطرابات المزاج.
تدهور الصحة البدنية والنفسية
ويتفق الغالبية العظمى من الناس، كما في مروان مدين، على أن هذه الساعات لا يتم فيها عمل مفيد أو إنجاز مهمة، بل على الأغلب تكون فقط للاسترخاء، وقضاء وقت على الهاتف أو تناول بعض المأكولات الخفيفة، ومشاهدة التلفاز، وقد تستمر لساعات ما بعد منتصف الليل.
ويقول مروان إنه مع مرور الوقت، وخلال تبادل الرسائل بين أصدقائه في ساعات الليل المتأخرة، اكتشف أن نسبة كبيرة منهم يعانون من ذات الحالة السلوكية في التعامل مع النوم، إذ يعمدون إلى البقاء في السرير أو على الأريكة دون القيام بأي مجهود، حتى وإن كانوا يشعرون بالنعاس، فشعورهم بعدم بذل المجهود والسهر كفيل بحد ذاته بمنحهم إحساسا بالراحة والمتعة.
وينوه أبو دنون إلى أن هناك مخاطر بدنية على جسم الإنسان في هذه الحالة، ومن ذلك "تدهور الصحة البدنية، قصير المدى كما في الشعور بالإرهاق، صداع، دوخة، ضعف مناعة مؤقت، وطويل المدى والذي يتمثل بزيادة خطر السمنة، مقاومة الأنسولين، ارتفاع ضغط الدم، أمراض قلبية ووعائية نتيجة خلل في الهرمونات (سكر، كورتيزول، غريلين/لبتين)".
تعطل الساعة البيولوجية للإنسان
ولكن، قد يكون ما يسمى بـ "تعطل الساعة البيولوجية (الساعة الداخلية)” من الأضرار الكبيرة أيضا التي تصيب من يعتمدون نمط تأجيل النوم الانتقامي، كما يقول أبو دنون، والذي سيؤدي حتما إلى تأخير النوم المتكرر وتحول الشخص إلى “night owl"، مما يصعب العودة إلى مواعيد نوم ثابتة، وحدوث مشاكل في النوم الاجتماعي، بمعنى "عجز عن الحضور للعمل مبكرا وتداخل مع الجداول العائلية".
مما قد يؤثر ذلك سلبا على العلاقات الاجتماعية، مسببا خمولا وانطوائية صباحية، وينتج عن ذلك ضعف في الدعم الاجتماعي أو نشوء توتر مع الشريك أو أفراد الأسرة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن قضاء الأمسيات أمام الشاشات بدلا من التواصل البشري يؤدي إلى تباعد عاطفي، وانخفاض في الإنتاجية، وتقديم أعمال ذات جودة أقل، وتأخير في إنجاز المشاريع، وضعف في الإبداع، وصعوبة في حل المشكلات، وزيادة التعرض للحوادث، وبطء في ردود الفعل، وفقا لأبو دنون.
استعادة الوقت رغم التعب
وعلّقت سامية حسين على ذلك قائلة: "تأجيل النوم الانتقامي" لا يقتصر على أولئك الذين لديهم عمل وتعب يومي، بل يمارسه الكثيرون ممن لديهم فراغ طويل خلال اليوم، ويفعلون الشيء نفسه عند الخلود إلى الفراش. وعزت ذلك إلى ظهور الهواتف الذكية التي أصبحت تُستخدم للتسلية والترفيه والتواصل مع الآخرين عبر الكتابة أو مشاهدة مقاطع فيديوهات متنوعة.
موقع "إكسبريس" عرض مؤخرا مقابلة مع خبيرة النوم في "Emma - The Sleep Company" فيرينا سين، وتحدثت عن هذه الظاهرة، مبينة أنه من الوارد جدا أن يكون العمل من المنزل سببا في حدوثها، خصوصا لدى الأشخاص غير القادرين على العثور على لحظات لأنفسهم، وأولئك الذين يشعرون أن أوقاتهم مزدحمة بالنهار، إذ إن الأمر كله يتعلق باستعادة السيطرة على وقتهم، حتى على حساب النوم.
استنزاف التنظيم الذاتي مساء
وهنا، يتحدث اختصاصي علم النفس الإكلينيكي للأطفال والمراهقين أسامة عبابنة عن هذه الحالة التي قد تصيب أيضا اليافعين والأطفال في بعض الأحيان، ويقول: إن ما يحدث له أسباب نفسية وعصبية، كما في نقص الإحساس بالتحكم في الوقت اليومي، عندما يكون الجدول اليومي مرهقا ومليئا بمطالب العمل، ورعاية الأسرة، والتنقلات، والاتصالات المتعددة، فيشعر الشخص بأنه "لم يعد المتحكم بوقته"، ويصبح تأخير النوم وسيلة لاستعادة جزء من السيطرة، بمعنى "هذا وقتي"، رغم التعب.
كما بين عبابنة وجود ما يسمى بـ "فجوة النية-السلوك"، أي أن الشخص قد ينوي الذهاب إلى النوم في وقت معين، لكن سلوكه يتجه نحو البقاء مستيقظا، ويعني أن النية وحدها غير كافية، بل هناك عوامل مثل التعب، استنزاف الذات، أو ضعف التنظيم الذاتي مساء تجعل الفعل يختلف عن النية.
ويشير عبابنة كذلك إلى ما يسمى بـ"استنزاف التنظيم الذاتي المسائي"؛ فبعد يوم طويل، ينخفض مخزون القدرة على ضبط النفس، مما يجعل مقاومة تأخير النوم أكثر صعوبة. ويزيد هذا الاستنزاف من الميل إلى التعامل مع الشاشات التي تبقي الدماغ في حالة نشاط بدلا من الدخول في طور الاسترخاء الذي يمهد للنوم، خاصة لدى الأشخاص الذين لديهم "ميل مسائي".
ويتفق عبابنة مع أبو دنون في خطورة هذه الحالة على الصحة النفسية والسلوكية والاجتماعية، وحتى الجسدية منها، مشيرا إلى حدوث "حلقة مفرغة"، لدى الشخص، إذ عندما يؤخر نومه يستيقظ متعبا، ما يقلل من قدرته على ضبط نفسه في اليوم التالي، ويزيد احتمال تأجيل النوم مرة أخرى، وهكذا تستمر الحلقة.
طرق لتنظيم النوم بساعات كافية
ويستشهد عبابنة أيضا بالعديد من الدراسات التي تناولت بتفصيل وجود ارتباط سلبي بين ظاهرة "تأجيل النوم الانتقامي" والأداء الأكاديمي لدى طلاب الطب، وهو ما يرتبط بانخفاض التنظيم الذاتي أو الشعور بفقدان السيطرة على الوقت.
وينصح عبابنة من يعاني من هذه المشكلة، ويلاحظ وجود الأعراض لديه، بضرورة إدراك أن حاجة الجسم للنوم أساسية وليست ترفا. وعليه، ينبغي تحفيز العقل والجسم لهذا الأمر، وإعادة تنظيم وقت الفرد، وتحديد موعد ثابت للنوم والاستيقاظ بهدف تثبيت الساعة البيولوجية. كما يُنصح بتحسين بيئة النوم والعادات المسائية، مثل إبعاد الشاشات قبل النوم بمدة لا تقل عن 30 إلى 60 دقيقة، والتوقف عن التصفح، وتقليل التعرض للضوء الأزرق المنبعث من الهاتف.
كما ينصح عبابنة بأهمية إيجاد روتين للنوم، كما في قراءة كتاب أو ممارسة تمارين تنفس، وجعل غرفة النوم مخصصة فقط للنوم، ومراجعة الجدول اليومي للتعامل مع الشعور بنقص السيطرة على الوقت، ولا ضير أحيانا من مراجعة مختص نوم أو خبير نفسي للتغلب على هذا الأمر في حال ازدادت الأمور سوءا.
يوضح أبو دنون أن السهر يؤدي إلى نوم سيئ، وينتج عن ذلك تعب خلال النهار، مما يسبب تراكم الضغوط، ومن ثم تزداد الرغبة في "الانتقام" ليلا، ويستمر هذا النمط السيئ المتفاقم على مدى الأسابيع، وصولا إلى مراحل متقدمة من الخلل اليومي في حياة الفرد.