عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Jul-2025

نحيب الأندلسيين على تراث ضاع تحت نير الحرق والاضطهاد

 الدستور-أ. د. محمد عبده الحتاملة

 
يا ويح الأندلس! كم بكتك السماء وناحتك القلوب، وكم ذرفت العيون دمعاً سخيناً على أهلها الذين اختاروا أن يعيشوا بين جدران القهر، حاملين في أفئدتهم نار العقيدة ومشاعل اليقين. لقد كان الموريسكيون، أحفاد الحضارة الإسلامية الباذخة، على بينة من الأمر: إن لم تسعفهم الأرض بأمان، فليجعلوا من صدورهم موطناً للإسلام، ومن صمتهم صوتاً للقرآن.
 
وما حملهم على التقيّة إلا فظاعة السوط، وحرقة السياط، وهدير محاكم التفتيش التي جعلت من الإيمان تهمة، ومن الصلاة جريمة، ومن العربية لغة لا تغتفر. ومع ذلك ظلوا على عهدهم، يُوارون صلاتهم خلف الأبواب، ويصومون مع القمر، ويحيون ليالي القدر بالبكاء والدعاء.
 
ولما اشتد الخناق، وانقطعت سبل الجهر بالعقيدة، ابتكر الموريسكيون لسانًا يجمع بين غربة المنفى ولغة القلب، فكانت الخُميادية، أو «الألخامية»، لغة استعجم بها المؤمنون ليحموا حروف العربية من الضياع، يكتبون بها آيات القرآن، وأحاديث الحبيب المصطفى، وأحكام الطهارة، وأذكار الصباح والمساء، في أوراق صغيرة يطوونها تحت الوسائد أو بين حنايا الثياب.
 
لم تكن الخُميادية مجرد وسيلة للتواصل، بل كانت وثيقة مقاومة، وعلامة بقاء، وسلاحًا حضاريًّا رشيقًا في وجه التنصير القسري. وكانت نساء الموريسكيين يحفظن بها وصفات الطب النبوي، وتعاليم الفقه، وحتى أسماء الله الحسنى، في حكايات تنسجها الجدات على ضوء السرج.
 
ولم يكن البطش الإسباني يستهدف الأجساد فحسب، بل أراد اجتثاث العقول من جذورها، فجاء الأمر بإحراق مكتبة غرناطة، تلك التي كانت تاج الشرق في الغرب، ومجمع علوم الشريعة والطبيعة والفلك والمنطق والحكمة. كانت نار الحقد تلتهم فيها ألف عام من الفكر النقي، ولم يسلم منها سوى ما انتُزع قسرًا لتُنهب به جامعات أوروبا الحديثة.
 
ويُروى أن أحد شيوخ الموريسكيين، حين رأى الكتب تُحرق في باب الرملة، قال: «ما دام فينا قلب يخفق، فالعلم لا يُحرق». فراحوا يخفون المخطوطات تحت البلاط، وفي الحيطان المجوفة، وفي كهوف جبال البشرات، حتى باتت الأرض شاهدة على مؤامرة إبادة معرفية لا نظير لها في التاريخ.
 
ومع كل ذلك، لم تندثر الروح، بل ازدهرت سرًا. كانت المجالس تُعقد ليلاً، يعلّم فيها الشيوخ الأطفال كيف يتوضؤون دون ماء، ويصلّون دون سجّاد، ويقرأون القرآن بعيون مغلقة وقلوب مفتوحة. وكانوا يعلمونهم أن الله لا يحتاج إلى الكنائس ولا إلى المعابد، بل يسكن في نَفَس الصادقين ودعاء المقهورين.
 
حتى اللغة العربية، تلك التي سُلبت من الشوارع والمدارس، بقيت حيّةً في الأناشيد، وفي رسائل الحنين، وفي شيفرة العاشقين، وفي النقوش المخبأة داخل خواتم النحاس. كانت الفتيات الموريسكيات يطرزن على ثيابهن أدعية قصيرة بحروف خميادية لا تفهمها سلطات الكنيسة، لكنهن كنّ يعرفن جيدًا أنها زاد الروح وسلاح البقاء.
 
أما المساجد، فقد حُوّلت إلى كنائس، والمآذن قُطعت كالألسن، لكن صوت الأذان ظلّ يُهمس في ليال الشتاء المظلمة، حين يجتمع الناس في السراديب ويتلون سورة الإخلاص، ويتبادلون التهاني بالعيد وكأنهم في قلب المدينة المنورة.
 
لقد ظنّ الإسبان أن النار تطفئ النور، وأن التنصير القسري يقتل العقيدة، غير أن الموريسكيين أثبتوا أن ما في القلب لا تمحوه الفتنة، ولا يطفئه لهيب الحقد. عاشوا غرباء في أوطانهم، لكنهم ماتوا شهداء في دينهم، حراسًا للهوية، وسدنةً لذاكرة لن تنطفئ.
 
فيا أندلس، لم تكوني أرضاً فقط، بل كنتِ كتاباً سماويًا يُتلى، وحين مزقوك، طبع الله في قلوب أبنائك سطورك، فخلدوك في الصمت، كما خلدوك في الخُميادية، حتى وإن أطفأت الكنيسة مصابيحك، فإن نورك لم يخبُ في أعماقهم، وإنك لباقية ما بقي في الأرض مؤمن يتلو سورة الفاتحة سراً خلف الأبواب الموصدة.