عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    20-Oct-2025

سلام دائم بين إسرائيل وفلسطين؟ سمعنا هذا من قبل - وكانت النتيجة مزيدا من الدماء

 الغد-ترجمة: علاء الدين أبو زينة

 
جايسون بيرك* - (الغارديان) 15/10/2025
 
بحلول نهاية عقد السبعينيات، كانت الأفكار والأساليب الأكثر علمانية وتقدمية، التي بدا قبل عقد أو نحوه أنها تبشر بمستقبل جديد في العالمين العربي والإسلامي، قد فقدت مصداقيتها، وأصبح دعاتها وناشطوها إما قتلى أو منفيين أو مُسكتين قسرًا. وهكذا تُرك المجال مفتوحًا ليملأه آخرون من الذين عرضوا رؤية مختلفة لكيفية الإطاحة بالنظام القائم والإيذان بقدوم عهد جديد... في العام 1982، رفع رونالد ريغان سماعة الهاتف واتصل بمناحيم بيغن ليخبره بأن ينهي الحرب في لبنان. ثمة دروس من التاريخ، وعلينا أن نتعلمها.
 
 
وإذن، في أي عام نحن؟ ها هو ذا رئيس أميركي يتدخل أخيرًا، بعد شهور من التشجيع الضمني، لإنهاء هجوم عسكري إسرائيلي حوّل مساحات شاسعة من مدينة شرق أوسطية إلى ركام، تاركًا آلاف القتلى ومثيرًا الغضب العالمي. وعلى مدى شهور، كانت الأمم المتحدة تراقب، عاجزة، بينما الطائرات الإسرائيلية تغير والمدافع تقصف المربعات السكنية ومخيمات اللاجئين النازحين قسرًا على ساحل المتوسط. وهدف الهجوم الإسرائيلي، بحسب مهندسه، هو "مملكة للإرهاب".
جاء الهجوم بعد سلسلة من الهجمات التي شُنت على إسرائيل. والآن، تحت ضغط من البيت الأبيض، وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي -وهو سياسي يميني يتمتع بموهبة الخطاب الشعبوي وينطوي على إحساس عميق بالمهمة الصهيونية التاريخية- على وقف إطلاق النار. وكذلك فعلت الفصائل الفلسطينية المسلحة التي واجهت القوة النارية الهائلة للجيش الإسرائيلي. وسوف يُجبر العديد منها على نزع سلاحها، وسيذهب كثيرون من كوادرها إلى المنفى. وتعمل الولايات المتحدة الآن على تنظيم قوة لحفظ السلام لتثبيت الوضع في القطاع.
لكن العام ليس 2025، وإنما 1982. والمدينة ليست غزة، وإنما بيروت. والرئيس ليس دونالد ترامب، بل رونالد ريغان. ورئيس الوزراء الإسرائيلي ليس بنيامين نتنياهو، وإنما مناحيم بيغن. وهدف الهجوم الإسرائيلي ليس حركة "حماس"، وإنما ياسر عرفات و"منظمة التحرير الفلسطينية" التي يرأسها.
ثمة العديد من الفروق بين ما حدث في لبنان قبل أكثر من أربعة عقود وما حدث في غزة خلال العامين الماضيين. ثمة القليل مما تمكن مقارنته بين غارة "حماس" في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، التي أسفرت عن مقتل 1.200 شخص وأسر 250 آخرين، وبين عمليات "منظمة التحرير الفلسطينية" المحدودة في العام -أو نحوه- الذي سبق الغزو الإسرائيلي للبنان. وتتباين التقديرات، لكن نحو 20 ألفًا قُتلوا في الحرب السابقة في العام 1982، أي أقل من ثلث حصيلة الضحايا الذين قُتلوا في غزة. ومع ذلك، ثمة أوجه تشابه مدهشة ولافتة أيضًا.
بعض هذه التشابهات يكاد يكون غرائبيًا. في العام 1982، رفع ريغان سماعة الهاتف في نهاية المطاف واتصل ببيغن ليخبره بأن ما يحدث في بيروت هو "هولوكوست"، وحذره من أن العلاقات بين بلديهما يمكن أن تتضرر بشدة إذا ما استمر العنف. وفعل ريغان ذلك بعد مشاهدته صورًا لأطفال مصابين بجروح بالغة في نشرات الأخبار المسائية. ووفقًا لمجلة "ذا أتلانتيك"، فإن قرار ترامب المفاجئ بالضغط على نتنياهو للموافقة على خطة غزة المكونة من 20 بندًا، التي أنهت -مؤقتًا- المجزرة في القطاع، جاء لأن الرئيس "تأثر بشكل خاص بصور الأطفال الجائعين، ورأى أن عرضها على شاشات الشبكات الدولية الكبرى يشكل كارثة علاقات عامة لإسرائيل".
في العام 1982، وبطريقة تشبه كثيرًا ما يحدث اليوم، جرى عرض الصراع في الزمن الحقيقي على ملايين الشاشات. وطار مئات الصحفيين وتدفقوا على بيروت لتغطية أول حرب عربية إسرائيلية من دون رقابة من أي من الطرفين. وعنت التكنولوجيا الجديدة للأقمار الاصطناعية أن تستطيع شبكات التلفزة الكبرى بث مشاهد تم تصويرها قبل ساعات قليلة فقط ليراها عدد هائل من المشاهدين. وفي غزة، وعلى الرغم من حظر إسرائيل لدخول المراسلين الصحفيين الدوليين، كان تأثير الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي لا يقل حدة.
في العام 1982، شكك المسؤولون الإسرائيليون في أعداد الضحايا التي اعتبرها كثيرون آخرون موثوقة، وزعموا أن القتلى كانوا في معظمهم من المقاتلين، واتهموا "منظمة التحرير الفلسطينية" باستخدام سكان بيروت كدروع بشرية. ودافع مؤيدو إسرائيل، آنذاك كما اليوم، بادعاء أن عرفات كثيرًا ما كان يعمل من مخابئ تحت المباني المدنية، بما فيها العمارات السكنية، وبذلك كان هو الذي يتحمل المسؤولية عن العواقب.
كان ما حدث بعد مكالمة ريغان الهاتفية ووقف إطلاق النار في بيروت ملهمًا وجديرًا بالاهتمام. فقد تفرقت "منظمة التحرير الفلسطينية"، بفصائلها ومسؤوليها، وتوزعت على آلاف الأميال وعشرات الدول. ثم انسحبت واشنطن من قوات حفظ السلام التي كانت تقودها، في ما شكَّل خرقًا للاتفاق مع عرفات. وبعد ذلك اغتيل بشير الجميل؛ الرئيس اللبناني المنتخب حديثًا والوكيل المفضل لإسرائيل، على يد أجهزة الأمن السورية، وهو ما دفع ميليشيات موت مارونية مسيحية إلى قتل آلاف الفلسطينيين في حيَّين فقيرين في جنوب بيروت، بتواطؤ من القادة الإسرائيليين الذين سهّلوا المجزرة.
بعد ذلك أعادت الولايات المتحدة إرسال قوات البحرية الأميركية، إلى جانب قوات فرنسية وإيطالية. وسرعان ما بدأت السيارات المفخخة المحملة بالمتفجرات التي يقودها شبان لم يبذلوا أي محاولة للنجاة من الموت في استهداف الإسرائيليين. كان هؤلاء من الإسلاميين اللبنانيين المتشددين الذين استلهموا الثورة الإيرانية في العام 1979. ولم يمضِ وقت طويل حتى جاء دور الولايات المتحدة لتكون الهدف التالي. وأودت الهجمات على سفارتها في بيروت وثكنات قوات بحريتها بحياة أكثر من 300 شخص. وفي غضون عام واحد أنهى ريغان التدخل الأميركي في لبنان. وتوحدت تلك الشبكات الإسلامية لاحقًا في تنظيم "حزب الله"، الذي سيظل يهدد إسرائيل بين الحين والآخر على مدى العقود الأربعة التالية وأكثر.
في كتابي "الثوريون" The Revolutionists، الذي جاء ثمرة لبحث استمر عشر سنوات وصدر هذا الشهر، أستكشف قصص أولئك الذين شاركوا في العنف السياسي خلال سبعينيات القرن الماضي. وكان أحد الأسئلة الجوهرية التي سعيت إلى الإجابة عنها في الكتاب هو: كيف أمكن أن يبدأ العقد بهجمات إرهابية مبهرة في الشرق الأوسط والتي نادرًا ما أسفرت عن خسائر بشرية كبيرة ونفذتها جماعات ذات توجه وطني وعلماني ويساري إلى حدٍّ ما، لكنه ينتهي بشيء مختلف تمامًا -هجمات انتحارية تخلف خسائر جماعية كبيرة ينفذها متشددون دينيون؟
قدّم ما حدث في لبنان جزءًا من الإجابة. كان أحد الأسباب التي سمحت بظهور "حزب الله" هو أن سنوات الحرب الأهلية والغزو الإسرائيلي أصابت بالشلل عددًا كبيرًا من الجماعات والفصائل والأحزاب السياسية الأخرى، بما فيها تلك الجهات الكثيرة التي كانت ملتزمة ببرامج للتغيير الجذري والتي لم تكن تقوم على أساس ديني. وقد تم القضاء على عدد كبير من الأفراد والجماعات الأكثر اعتدالًا.
وكان هذا صحيحًا في بقية أنحاء المنطقة أيضًا. بحلول نهاية عقد السبعينيات، كانت الأفكار والأساليب الأكثر علمانية وتقدمية، التي بدا قبل عقد أو نحوه أنها تبشر بمستقبل جديد في العالمين العربي والإسلامي، قد أُفقدت مصداقيتها، وأصبح دعاتها ونشطاؤها إما قتلى أو منفيين أو صامتين قسرًا. وهكذا تُرك الفراغ مفتوحًا ليملأه آخرون من الذين عرضوا رؤية مختلفة لكيفية الإطاحة بالنظام القائم والإيذان بقدوم عهد جديد.
أصبحت نتائج هذا التحول بالغة الوضوح بسرعة كبيرة: كانت الثورة الإيرانية، واستيلاء متطرفين مسلمين مهووسين دينيًا على المسجد الحرام في مكة، والانتفاضة الدموية في سورية، واغتيال أنور السادات في القاهرة في العام 1981 على يد متشددين إسلاميين - كلها أحداث وقعت تباعًا خلال فترة وجيزة. وفي مختلف أنحاء المنطقة، تواجه إسرائيل والولايات المتحدة الآن أعداءً أشدّ صلابةً وفتكًا وكفاءةً من اليساريين والقوميين في العقود السابقة. كان مقاتلو "منظمة التحرير الفلسطينية" (وربما المقاتلات الإناث أحيانًا) يعقدون المؤتمرات الصحفية ويوزعون المنشورات بعد تنفيذ العمليات. لكن ما حدث بعد تفجيرات بيروت في العام 1982، لم يكن سوى إصدار بيان مقتضب لإعلان المسؤولية عن الهجوم باسم "الجهاد الإسلامي"، وكان هذا كل شيء.
وفي الغرب، كانت تداعيات هذا الوضع هائلة. خلال السبعينيات، سعى المحللون والمسؤولون الغربيون إلى فهم العوامل التي تتسبب في التطرف العنيف. وأنتجت أجهزة الاستخبارات عددًا لا يُعد ولا يُحصى من التقارير التي تشرح العوامل التي تدفع الأفراد أو الجماعات إلى ممارسة العنف. وتلقى الأكاديميون والباحثون تمويلًا لإجراء دراسات ضخمة حول ما سيُعرف لاحقًا بـ"عوامل التطرف".
ثم، في أوائل الثمانينيات، توقف ذلك كله. لم يعد القادة السياسيون في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والدول الأخرى مهتمين بمعالجة "الأسباب الجذرية" للعنف. بدلاً من ذلك، أصبحت وجهة النظر السائدة هي أن "الإرهابيين" مجرد مجانين أو أشرار أو مضلَّلين أو أدوات بيد الآخرين -عادة موسكو. ولم تعد الظروف المحلية، ولا الدوافع المعقدة للذين يستخدمون العنف كوسيلة لجلب التغيير موضع اهتمام.
في الأسبوع الذي سبق كتابة هذه الصدور، قيل إن ترامب أخبر نتنياهو بأن إسرائيل لا يمكنها أن تحارب العالم بأسره، وأقرّ في خطته المكونة من 20 بندًا بتطلعات الفلسطينيين إلى إقامة دولة -على الرغم من أن كلمة "مشروعة" حُذفت منها، كما قيل، بعد اعتراضات إسرائيلية. وكان هذا أيضًا صدى للعام 1982.
في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان، قال ريغان لإسرائيل إن قوة جيشها وحدها لا يمكن أن "تجلب سلامًا عادلًا ودائمًا"، وأقرّ بـ"الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني". لكن خطة السلام الإقليمية التي قادتها الولايات المتحدة لمعالجة تلك المطالب لم تفضِ إلى شيء. ومن تونس، كان عرفات يراقب المشهد عاجزًا. ثُم خفَت اهتمام ريغان بالشرق الأوسط، واستمرت إسرائيل في رفض تقديم أي تنازلات. وفي العام 1987، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وتأسست حركة "حماس".
 
*جيسون بيرك Jason Burke: صحفي دولي مختص في الشؤون الأمنية لدى صحيفة "الغارديان" البريطانية، حيث يغطي القضايا المتعلقة بالإرهاب، والصراعات الدولية، والأمن العالمي. يتمتع بخبرة واسعة في تغطية الأحداث في مناطق النزاع، بما في ذلك الشرق الأوسط وآسيا، وقد ألف كتبا عدة حول التطرف والإرهاب. يُعرف بورك بأسلوبه التحليلي العميق وقدرته على تقديم رؤى فريدة حول القضايا المعقدة، مما يجعله واحدًا من أبرز الأصوات في الصحافة الحديثة. آخر كتبه هو "الثوريون" The Revolutionists الذي صدر هذا الشهر.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: A lasting peace between Israel and Palestine? We’ve heard that before – the result was more bloodshed