الدستور -
لم يكن كِبَرُنا صاخباً كما كنا نتصور، لم يأتِ على هيئة احتفال أو علامة واضحة نُدركها فجأة. لقد كبرنا بهدوء، بخطواتٍ خفيفة لا يسمعها أحد، لكننا شعرنا بها في قلوبنا حين تغيّر كل شيء دون أن نخطط لذلك.
أحياناً، لا ننتبه أننا كبرنا إلا حين نشتاق لأيامٍ طوتها الرزنامة.
كبرنا حين لم نعد نبحث عن أصدقاء جدد، ولا ننتظر من أحد أن يحبنا أو يملأ فراغاتنا العاطفية. صرنا نعرف أن العلاقات لا تُطلب، وأن البقاء الحقيقي هو لمن يختارنا دون مصلحة أو مناسبة. عرفنا أن النضج لا يعني أن تبتعد عن الناس، بل أن تعرف من يستحق أن تقترب منه.
كبرنا حين أصبح تكرار الملابس لأسبوع أو اثنين لا يُزعجنا، لأننا ببساطة لم نعد نعيش لإرضاء أحد، ولا يهمّنا أن نبدو كما يرانا الآخرون، بل كما نشعر نحن أننا نحن. كم هو مريح أن نكون على سجيتنا، بلا تصنع ولا تكلّف فذلك أبهى أناقة يمكن أن نرتديها.
كبرنا حين كففنا عن المجادلات، لأننا أدركنا أن الوقت أثمن من أن نضيّعه في إثبات «ما ستُثبته الأيام لاحقاً».
في النهاية، لا يُثبت الزمن من كان على حق، بل من كان صادقًا مع نفسه.
كبرنا حين صرنا نُخفي وجعنا بابتسامة، ونتعامل مع جراحنا كما يتعامل الطبيب مع نفسه بعد نزفٍ بسيط؛ بهدوء، وبقوة، وبلا شكوى. لم نعد نحتاج لمن يسمعنا دائماً، ولا لمن يفهمنا من نظرةٍ واحدة، أو حتى إدامة نظر.
تعلّمنا أن الشجاعة ليست في البوح، بل في الصمت الجميل.
كبرنا حين لم نعد نتأثر بالكلمات الجميلة، ولا نصدق الوعود المكررة، لأننا تعلمنا أن الأفعال فقط هي التي تُترجم ما في القلوب.
الوعود لا تعني شيئًا حين لا يرافقها فعل والصدق أجمل لغة لا تحتاج إلى ترجمة.
صرنا نضحك بخفة، ونحزن بصمت، ونفرح لأبسط الأسباب، لأننا اكتشفنا أن البساطة هي ما يجعل الحياة محتملة، فكلما زادت بساطة الأشياء، زادت قيمتها في القلب.
كبرنا حين توقفنا عن انتقاد الآخرين، وصرنا نتمنى لهم الخير، لأننا أدركنا أن القلوب الطيبة لا تخسر شيئاً حين لا تقف كثيرًا عند أي ملاحظة مقصودة أو غير مقصودة، وعرفنا أن المظاهر خادعة، وأن البريق لا يعني الذهب، وأن حبل الكذب مهما طال، لا بد أن ينقطع يوماً.
لا أحد كامل، لكن الكامل هو من يتوقف عن محاكمة الآخرين. صرنا نعرف متى نسامح دون أن نُضعف أنفسنا، ومتى نتغابى دون أن ننخدع، أو نخدع أحداً، ومتى نرحل بصمت دون ضجيج، وبلا عودة.
تعلمنا ألا ننتظر شيئاً من أحد، وأن الاكتفاء بالنفس ليس عزلة، بل راحة وكرامة وطمأنينة. نعم، الاكتفاء بالنفس نعمة لا يفهمها إلا من تخلّى عن التعلّق بكل شيء.
كبرنا، نعم، كبرنا. لكننا كبرنا بهــدوء...
كبرنا دون ضجيجٍ ولا إعلان، فقط بقلوبٍ نضجت، وأرواحٍ فهمت الحياة كما هي، لا كما حلمنا بها يوماً.
كبرنا، لا لأننا فقدنا الشغف، بل لأننا أخيراً وجدنا السلام.