مشاركة الألم عبر السوشال ميديا.. طريق للشفاء أم تعميق للجراح؟
الغد-ديمة محبوبة
في العاشر من تشرين الأول، بينما يحتفل العالم بـ"اليوم العالمي للصحة النفسية"، كانت منصات التواصل الاجتماعي تعج بمنشورات تحكي عن القلق، الخسارة، والوحدة والاكتئاب بأشكاله.
كلمات بسيطة وصور رمزية وعبارات تعبر عن جراح سابقة، وتجارب نفسية قاسية، تحدث عنها أصحابها علنا متأملين تجاوزها، من خلال الحديث عنها وخلق ساحة رقمية من غرباء تشاركوا الألم.
لكن هل فعلا مشاركة الألم والتجارب القاسية وأعراض الاكتئاب علنا ومع غرباء على منصات مفتوحة أن تشفي هذه الجراح؟
رسائل من تجارب مشتركة
تقول ليلى (29 عاما) "كتبت منشورا عن اكتئابي بعد وفاة والدي، كنت بحاجة لأنفس عن حزني، لمخاطبته، لسماع من يواسيني، وخلال ساعات وصلتني عشرات الرسائل من أناس مروا بنفس التجربة، فبكيت، وتألمت وشعرت بمواساة حقيقة وبنصائح للمساعدة على تجاوز هذا الألم والفقد".
ليلى ترى أن المشاركة أنقذتها من العزلة، وأن دعم الغرباء كان صادقا أكثر مما توقعت. في المقابل، يختلف سامي (33 عاما) في تجربته فيقول: "عند خسارتي لعملي شعرت بضيق نفسي كبير مع تراكم الالتزامات، إذ قررت أن أنشر مقطع ريلز على صفحتي، فيها بعض السوداوية تعبيرا عما أشعر، وشعرت بندم كبير، إذ وجدت تعليقات مختلفة منها المتعاطف، ومنها أني فاشل وكئيب وأن علي الاحتفاظ بمشاكلي فكل شخص لديه ما يكفيه".
هاتان القصتان تلخصان المفارقة الكبرى بين من يرى في المشاركة علاجا ذاتيا بالتعبير، ومن يعتبرها تجربة مؤلمة تزيد الوحدة.
الفضاء الرقمي كمساحة اعتراف
يقول اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي: "ما نشهده اليوم هو تحول في الطريقة التي يتعامل بها الجيل الجديد أو مستخدمو السوشال ميديا مع الألم، لم يعد يكتفي بالصمت أو بالحديث إلى صديق مقرب، بل بات يستخدم الفضاء الرقمي كمساحة اعتراف وتفريغ".
ويؤكد أن هذه الخطوة رغم جرأتها، تعكس حاجة عميقة للاحتواء في مجتمعات ما تزال تعد الحديث عن الاضطراب النفسي ضعفا أو عيبا. ويضيف خزاعي، فعندما يشارك الإنسان مشاعره بصدق، فهو لا يبحث بالضرورة عن شفقة، بل عن اعتراف بإنسانيته.
لكن المشكلة تبدأ حين يتحول الفضاء الرقمي من مساحة دعم إلى ساحة مقارنة أو منافسة على الألم، أو عندما يستخدم المحتوى النفسي لجذب الانتباه، عندها تفقد المشاركة معناها العلاجي.
فقدان للأمان العاطفي
ومن الناحية النفسية، لا توجد إجابة واحدة؛ فتقول المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني: "العلاج بالكلام معروف بفعاليته، والبوح عبر الإنترنت قد يحقق جزءا من هذا الأثر، لكن التفاعل الإلكتروني يفتقد عنصر الأمان العاطفي الموجود في الجلسات المباشرة، والشخص الذي يكتب عن اكتئابه قد يشعر بالراحة لحظيا، لكنه إن واجه تجاهلا أو سخرية، فذلك يضاعف ألمه".
وتبين أن الدماغ يتعامل مع التفاعل الرقمي كما لو أنه تفاعل واقعي، فحين يشارك الفرد مشاعره، فإنه ينتظر استجابة داعمة، فإن غابت يفسرها الدماغ على أنها رفض مجتمعي أو عدم اهتمام ما يزيد الشعور بالوحدة أو القلق.
ورغم هذه الملاحظات، فإن الكيلاني ترى أن مواقع التواصل أصبحت غرف اعتراف رقمية، خاصة للشباب الذين يشعرون بأن لا أحد يصغي لهم في الواقع، فيمكن أن تكون بالفعل أداة نجاة للبعض وأداة غرق للبعض الآخر.
وتؤكد على فكرة عدم وجود إجابة واحدة، كل حسب حالته لأن البعض يريد فقط أن يحول معاناته إلى محتوى مرئي، كأن يوثق لحظات بكائه أو انهياره أمام الكاميرا، ومنهم من يرى في ذلك شجاعة، ومنهم من يعتبره "استعراضا".
صرخات لطلب المساندة
لذلك ترى الكيلاني أنه ليس كل من يصور دموعه يبحث عن الشهرة، فبعضهم يفعل ذلك لأنه لا يجد من يسمعه، فيشعر أن الفيديو هو صرخة لطلب المساندة، لا الإعجاب.
في حين يؤكد خزاعي على أن المجتمع بحاجة إلى تسامح أكبر مع التعبير الإنساني مهما كان الغرض منه، وأن المجتمعات التي تمنع البوح أو تتعامل معها بسخرية وتهكم غير مراعية الحالة النفسية يمكن أن تخلق أزمة حقيقية للفرد، مبينا إن وجد شخص بحاجة حقيقية لمساعدة مهنية عليهم أن يساعدوه لا أن يحاكم.
وبشكل عام ومع رصد الكثير من الصفحات الشخصية على الانستغرام والفيس بوك يظهر أن هناك وعيا بالصحة النفسية في العالم العربي، وأنها بالفعل بدأت تتشكل مجتمعات دعم رقمية إيجابية على منصات التواصل فيتبادل فيها الناس تجاربهم حول القلق والفقد ويتلقون تشجيعا من أشخاص مروا بتجارب مشابهة.
سلبيات في الإفراط بالبوح
هذه المبادرات بحسب الكيلاني، تمثل امتدادا عصريا للعلاج الجماعي، وإن كانت بوسائل حديثة. وتبين رغم إيجابياتها إلا أنها تشدد على أن تبقى ضمن حدود عدم الإفراط في البوح أو الانغماس في هوية الضحية، حتى لا تتحول المشاركة من وسيلة شفاء إلى قيد نفسي جديد.
وتضيف أن المشاركة مفيدة حين تكون خطوة نحو التعافي، لا عندما تتحول إلى سجن من التعاطف الافتراضي وتمقص دور الضحية.
وأخيرا في يوم الصحة النفسية، ربما تكون المعادلة الصحيحة التحدث بصدق مع القريب وبوعي، وإن استخدمت هذه المنصات فيكون استخداما واعيا لمشاعر وتجارب بحثا عن التعافي والمواساة لا للعب دور الضحية أو لتجميع الإعجابات والانغماس بالألم، وأن المكان الحقيقي للعلاج النفسي على يد مختصين أكفاء، حتى لا يكون الأثر سيئا وتجربة أقسى يعيشها الفرد.