عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Jun-2025

"الغد موعدنا" قصص من عمق الحياة وتأملات في جراح الإنسان

 الغد-عزيزة علي

 تفتح القاصة ميسون حنّا في مجموعتها القصصية "الغد موعدنا"، نوافذ هذه الحياة الصعبة، فتدعونا لنُمعن النظر في تفاصيل صغيرة تحمل في طياتها قصصا كبيرة: دمية طفل لم يفقد روحه رغم استشهاده، شال ممزق لزوجة رحلت، مراهقة تكبر في حضرة الغياب، وأب يحاول التماسك في مواجهة فراغ العاطفة. تكتشف عبر هذه النصوص الخبايا المنسية في زحمة الصراعات، وتحاول بلغة رشيقة وسلسة أن تؤشر إلى المسارات التي يمكن أن تؤدي إلى الإصلاح والمصالحة.
 
 
 
في هذه المجموعة القصصية التي تضم نحو عشرين قصة قصيرة، تنبض نبضات الواقع الاجتماعي بكل قسوته وعمقه، حيث تتشابك حياة الأفراد مع قضايا الإنسان العادي في مواجهة التحديات اليومية والظروف القاسية. تحكي هذه النصوص عن معاناة الأسر والقلوب التي تألمت تحت وطأة غياب العدالة، الفقد، والتباعد النفسي، لكنها في الوقت ذاته تحافظ على بريق الأمل الذي لا ينطفئ، وترصد اللحظات الإنسانية النادرة التي تصنع من الألم بداية للتغيير.
 
 
هذه المجموعة ليست مجرد سرد لقصص فردية، بل هي مرآة تعكس واقعا يتجاوز حدود المكان والزمان، لتصل إلى جوهر الإنسان في أحلك ظروفه. فيها صوت مُنتمٍ لقضيّة إنسانية، صوت يحكي ويعالج، ويؤمن بأن الأدب هو نبع لا ينضب من القوة التي تغيّر وتحيا.
 
 
كتب الناقد والروائي السوري محمد فتحي المقداد مقدمة للمجموعة، يشير فيها أن هذه المجموعة تمثل قطرة دمٍ وقلم، في جدلية القوة والتسلط، والضعف والمقاومة؛ فعندما تحاول نقطة الحبر أن تتحول إلى نُسُغ، فإنها تمد الحياة بأسباب نمائها وازدهارها، وتصنع نسيجا من الكلمات المُدمّاة؛ لتحكي مأساة إنسانية مغموسة بالألم والحزن والموت. فما قيمة الفكر والثقافة ومُخرجاتها الكتابية والتدوينية، إذا لم تُعلن هويتها المرتبطة بقضية؟
 
 
ويرى المقداد أن القاصة "ميسون حنّا" صاحبة قضيَّة لا تبارح ساحاتها، رغم بعدها الجغرافي عنها؛ فهي تتلمَّس أوجاع وطن سليب، مثقل بالآهات والأحزان. ومن خلال نصوص مجموعتها القصصية "الغد موعدنا"، التي يحمل عنوانها ذاته لوحة مشرقة ترسم ملامح الغد، غدِ الانتصار والتحرير؛ فإنها تضيء بهذه الجملة الاسمية المُعرّفة عتمات الليل، وتمهّد الطريق بالضياء نحو ذلك الغد، الذي سيكون موعدا للنزال ومناجزة العدو.
 
 
فصاحب القضيّة يبقى على أملٍ، بل على يقينٍ دائم، بأن النصر حليفه، ولو بعد حين.
 
 
بهذا المنحى، تصير الثقافة والكتابة شكلا من أشكال المقاومة. ويُبيّن المقداد أن نصوص هذه المجموعة تتمحور أولا حول قضية العودة، وثانيا حول تفاصيل الصراعات الاجتماعية والأسرية.
 
 
فقد وردت تحت عنوان رئيس هو "العودة" ثلاث نصوص معنونة ومرقّمة على النحو الآتي:(1) دمية شال، (2) عودة ملغومة،(3) عُدنا.
 
 
ثم تتابعت النصوص الأخرى لتناقش القضية ذاتها، ومنها: الموت الكريم، أحلام غزّية، نور، هواجس، نقطة تفتيش، وقتام.
 
 
ويتحدث المقداد عن دلالات هذه العناوين، التي تنسحب للتعبير عن نصوص تحكي قصصا مشبعة بالخوف، والقلق، والموت، والدمار، والجوع، والعطش، والفقر المُدقع؛ حيث تنكفئ الحياة إلى مجرد البحث عمّا يُقيت البطون ويحفظ البقاء فقط، دون أن يبقى هناك ما يبرر الدفاع عن أي شيء آخر.
 
 
أما القضية الثانية، وهي القضية الاجتماعية، فتتمحور نصوصها حول الغوص في تفاصيل الواقع الأسري والانحرافات الناتجة عن البطالة وتعاطي المخدرات، وكلها تنطق باسم الفقر، الذي يُعدّ العنوان الأبرز.
 
 
وتتجلّى من خلال هذه النصوص أيضا قضايا الاغتراب وأثره التربوي على الزوجة والأبناء، إلى جانب صراع الأجيال الناتج عن التفاوت في النظرة إلى الحياة؛ بين القديم المحافظ الجامد، والحديث المنطلق نحو دروب الحياة المتغيرة.
 
 
متاهات الخلل الاجتماعي في مجموعة من العناوين القصصية: تقودنا هذه المجموعة من العناوين إلى زوايا معتمة في سلوك الأفراد والأُسر والجماعات، إذ تُسلِّط الضوء على مظاهر الخلل الاجتماعي بأشكال مختلفة، رغم تنوُّع البيئات. وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي من تعميق هذه الإشكالات، بانعكاساتها السلبيَّة على واقع الناس وحياتهم اليوميَّة.
 
 
ومن أبرز هذه القصص: "المخلوع"، تعالج هذه القصة مسألة التفاوت الثقافي بين الزوج والزوجة، وما يترتب على ذلك من خلل في العلاقة الزوجية، لينتهي الأمر بالانفصال عبر الخلع. "مناورة"، ترصد القصة ضغوط الحياة اليومية، من ضيق العيش وغلاء المعيشة وتدنّي الرواتب، مقارنة بعدد أفراد الأسرة، مع تسليط الضوء على الزوج الذي اضطر للإقلاع عن التدخين تحت إلحاح زوجته، لتوجيه ما ينفقه على التدخين نحو الاحتياجات الأساسية.
 
 
وتطرح قصة "غُربة"، معاناة الزوج الذي قضى سنوات طويلة في الغربة، ليعود ويجد فجوة واسعة تفصله عن زوجته التي بردت عاطفتها، وأولاده الذين كبروا بعيدا عن عينه وقلبه، فتسود بينهم مشاعر الاغتراب والجمود. "مراهقة"، توفيت الأمّ، وخلّفت وراءها فتاة في بداية نضوجها، تواجه مشكلات المراهقة وحيرتها، فيما يجد الأب نفسه عاجزا عن تربيتها وحده، فيلجأ إلى خالتها لمساعدتها في التوعية. تتعقّد الأمور حين تنشأ علاقة عاطفية بينها وبين ابن الجيران الذي تُطل نافذتها على نافذته.
 
 
فيما تبين قصة "اللعب بالنار"، صراع بين القديم والجديد، يتمثل في نظرة الأب، أستاذ الفنون التشكيلية، إلى حياته الماضية، وذكرياته، مقارنة بما يراه من سلوك أولاده في اللعب واللهو، والأنشطة التي يمارسونها. فيما تتحدث قصة "الخريف"، رجل عجوز يحتسي مرارة الذكريات، ويعيش على أطلال حبٍّ قديم، مسترجعا لحظات عمره مع زوجته الراحلة. فيما تسلط قصة "احتراق"، الضوء على الغيرة والحسد، وتأثيراتهما السلبية على الأفراد والجماعات، وانعكاساتهما في تدمير العلاقات، وإفساد الواقع الاجتماعي.
 
 
وخلص إلى أن جميع النصوص، بواقعيتها الاجتماعية، جاءت لمعالجة خفايا منسيّة وسط زحمة الصراعات اليومية. وقد كان للّغة السلسة الدور الأبرز في التعبير عن مكنونات الكاتبة، وهي تسعى، من خلال هذه القصص، إلى الإشارة نحو سبل الإصلاح والمعالجة. مبينا أن جميع نصوص هذه المجموعة تُظهر بوضوح انتماء الكاتبة ميسون حنّا إلى قضية محورية لا تفارقها في مجمل كتاباتها السابقة. وقد تجلّى هذا الانتماء من خلال متابعتي لنتاجها الفكري في القصة القصيرة، والمسرح، ونصوص الخواطر، حيث ظلّت رؤيتها واضحة، وصوتها ملتزما بقضايا الإنسان والمجتمع.
 
 
في قصة العودة "دمية وشال (1)"، تقول القصة:"عدنا إلى مقرّنا. بيتنا وجدناه حُطاما. بحثنا بين الركام علّنا نجد شيئا من متاعنا ننتفع به. هذه دمية ولدي، على شكل شرطيٍّ مسلّح، كان يتخيّل نفسه وهو يحارب العدو.. استُشهد الصغير، وبقيت دميته. ناولتها لابنتي التي كانت تقف بجانبي، أمسكتها وتنهدت، ثم وضعتها جانبا. ستحتفظ بها للذكرى. ومن يدري؟ قد تتحرر البلاد، وحينها سيكون للدمية رمز جديد، وأهمية إضافية تجعلنا نحرص على سلامتها الآن.