الدستور
لم يكن البيان الإعلامي المنسوب إلى أحد أبناء عشيرة الجعبري في الخليل، حول القبول بانفصال المدينة عن السلطة الفلسطينية، مجرد تصريح فردي يمكن طيّه بسهولة، بل هو علامة على تحوّل أكثر عمقاً في المشهد الفلسطيني، يعكس حجم الهشاشة التي باتت تضرب بنية الحالة السياسية في الضفة الغربية، في وقت تتقدم فيه إسرائيل بخطى ثابتة نحو فرض تصوراتها النهائية لمرحلة «ما بعد السلطة الفلسطينية».
الخليل هي أكبر حواضر الضفة من حيث السكان، وتملك ثقلاً اقتصادياً واجتماعياً كبيراً، وشبكة علاقات عائلية وعشائرية مترابطة، ولها موقع رمزي وديني وتاريخي بالغ الأهمية، لكنها في المقابل، تشعر منذ سنوات طويلة بالتهميش، سواء في التمثيل السياسي أو في توزيع الموارد والمشاريع، ما أوجد بيئة خصبة لحالة من الغضب الصامت، وسّع الفجوة بين المدينة والسلطة، خاصة في ظل اتهامات بجباية الضرائب دون مقابل تنموي ملموس.
الخطير في الأمر أن هذه الفجوة لم تَعُد فقط تعبيراً عن سوء إدارة أو غياب عدالة في التمثيل، بل تحوّلت – كما يُظهر نموذج «إمارة الخليل» – إلى مدخل تستخدمه إسرائيل لتفكيك الضفة من الداخل، عبر أدوات ناعمة: شخصيات محلية، وعناوين عشائرية، ومبادرات ظاهرها اقتصادي، لكنها تخدم مشروعاً سياسياً يتلخص في إنهاء مفهوم الدولة الفلسطينية، واستبداله بكانتونات وظيفية، تعمل في ظل الاحتلال، وتتكيف معه.
في هذا السياق، يصعب تجاهل المقارنة بما عرف في أواخر السبعينيات بـ»روابط القرى»، التي دعمتها إسرائيل في الضفة الغربية آنذاك، كمشروع بديل عن منظمة التحرير الفلسطينية، يقوم على التعامل مع وجهاء محليين لإدارة الشؤون المدنية، ضمن خطة أُطلق عليها «الحكم الذاتي المدني». كان الهدف واضحاً: خلق قيادة بديلة، منفصلة عن الإطار الوطني، تقبل التنسيق مع الاحتلال، وتُضعف مركزية التمثيل الفلسطيني. ومع أن المشروع فشل بفعل رفض شعبي واسع، إلا أن الفكرة لم تمُت، بل تُبعث اليوم بصيغ معدّلة، أكثر نعومة وأقل مباشرة.
من زاوية إسرائيلية، فإن ما يجري في الخليل ليس أكثر من «نموذج تجريبي» يمكن تعميمه لاحقاً. الهدف ليس فقط إخراج الخليل من معادلة الضفة، بل كسر الرابط بين المحافظات الفلسطينية نفسها، وتحويل كل مدينة إلى وحدة مغلقة، تنشغل بنفسها، وتُدار محلياً، بلا سقف وطني مشترك. وهذا هو جوهر المشروع البديل: إدارة السكان لا الأرض، وقتل الهوية السياسية عبر تغذية الهويات العشائرية والمناطقية، وتفكيك ما تبقى من المشروع الوطني إلى روابط أهلية جديدة، خاضعة بالكامل لمنطق الإدارة المدنية.
المطلوب قراءة أوسع لما تمثّله هذه المبادرات الهامشية من تهديد استراتيجي، سواء للهوية الوطنية الفلسطينية، أو للاستقرار الإقليمي. المطلوب أن يكون هناك وعي فلسطيني داخلي بأهمية استعادة الثقة مع المدن المهمشة، وعلى رأسها الخليل، ليس فقط بلغة الأمن أو الإدارة، بل بإعادة دمجها في المشروع الوطني، بشراكة كاملة.
هنا تحديداً، يصبح السؤال الأردني مشروعاً وملحاً: هل ما يحدث في الخليل شأن فلسطيني داخلي فقط؟ أم أننا أمام تحوّلات تمسّ الأمن الاستراتيجي الأردني مباشرة؟ من الوهم الاعتقاد أن تفكك الضفة يمكن أن يحدث بمعزل عن الأردن، أو من دون ارتدادات على معادلة العلاقة بين الضفتين. كل ضعف في المشروع الوطني الفلسطيني يقابله فراغ استراتيجي في المنطقة، وكل تراجع للسلطة يفتح الباب أمام سيناريوهات لا تصب في صالح الأردن، لا على مستوى الجغرافيا، ولا على صعيد الهوية.
تعامل الأردن دائماً مع الضفة الغربية باعتبارها عمقاً أمنياً واجتماعياً وسياسياً. ومن هذا المنطلق، فإن أي تفتيت لهذه الجغرافيا الواحدة – سواء عبر إمارات عشائرية، أو روابط مدنية جديدة، أو مدن مستقلة – لا يمكن النظر إليه كحدث محلي منعزل، بل كمؤشر على تحول خطير في طبيعة الصراع ومآلاته.