عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-Oct-2025

غياب الأدب العربي عن جائزة نوبل، لماذا؟*د.سلطان المعاني

 الدستور

يغيب العربي عن «نوبل» للأدب، فنغضب ونبحث عن شماعةٍ سهلة: «تسييس الجائزة»، «عنصرية المركز»، أو «قصور لغتنا». يُريحنا الاتهام، لكنه لا يفتح بابًا واحدًا نحو الحل. يلزم أن نرى الصورة كما هي: ليست المشكلة في جوهر الأدب العربي ولا في العربية، المشكلة تكمن في السلسلة التي تحمل النص من الورقة إلى منصةٍ عالمية لا تقرأ إلا ما يصلها مترجمًا، مؤرشفًا، ومسنودًا بشبكاتٍ نقدية ونشرٍ محترفة.
نبدأ بالترجمة؛ تسبق الأمم التي جعلت من الترجمة سياسةً ثقافيةً لا هوايةً شخصية. تُترجِم باكرًا وبكثافة، وتفرض حضور كتّابها على لغات التحكيم عبر محرّرين ووكلاء يفهمون ذائقة السوق العالمية. نتأخر نحن، أو نُترجم متقطّعًا وبعينٍ انتقائية، فنفقد «لحظة الالتقاط» التي تصنعها الجوائز الكبرى: اللحظة التي يلتفت فيها النقد العالمي إلى تيارٍ أو صوتٍ بعينه. يصل العربي بعد أن تغيّرت الريح.
يتواصل الخلل في «دورة السمعة». تُشيِّد دور النشر العالمية والمجلات الكبرى والمهرجانات خرائطُ حضورٍ لا يدخلها إلا من امتلك وكيلًا أدبيًا يعرف الأبواب، وناشرًا يملك منافذ توزيعٍ ومحررين قادرين على دفع الكتب إلى قوائم القراءة والمراجعات. من يبقى خارج هذه الدورة يظلّ غير مرئيّ، مهما علت قيمته الفنية في فضائه المحلي.
يتعقّد الأمر ببروتوكول الترشيح. لجنة نوبل لا تقبل الترشيح الذاتي، وتعتمد قوائمَ مغلقة من مرشِّحين مؤهّلين: أكاديميات، أساتذة لغات وآداب، اتحادات كُتّاب، وفائزين سابقين. حين لا تُبنى جسورٌ مؤسسية دائمة بين جامعاتنا واتحاداتنا وهذه الدوائر، لا تصل الملفات قوية ومقنعة، أو لا تصل أصلًا. يضاف إلى ذلك ذاكرة نقدية أوروأطلسية صُنعت عبر قرنٍ من الأرشفة والاستشهادات وقوائم القراءة الجامعية؛ ما لا يُؤرشف ويُدرّس ويُقتبس يظلّ خارج رادار المؤسسة.
تتداخل السياسة؟ نعم، ولكن كظلّ للسياق لا كقرارٍ فَجّ. تتأثر الاختيارات بـاللحظة ورموزها: حرية، هوية، حرب، مقاومة  غير أن هذا يفسّر استدارة البوصلة، لا غياب الخريطة. الغياب يصنعه الإقصاء البنيوي الكامن في فجوة الموارد، والشبكات، والترجمة، وهذا الإقصاء البنيوي يجعل الطريق غير متكافئ حتى دون مؤامرةٍ معلنة.
لا تنفعنا إذن أسئلة «هل يكرهوننا؟» بقدر ما تنفعنا أسئلة «كيف نُرى؟ وكيف نصل؟». تُجيب الوقائع: نرى قليلًا لأننا نحضر قليلًا في لغات التحكيم؛ نصل متأخرين لأن البنية التي تحمل نصوصنا ضعيفة الوصلات. يُفترض أن نعامل «نوبل» كقمة جبل جليد، لا كمعيار عدالةٍ مطلق؛ ما يظهر فوق الماء نتيجة لما يجري تحته: سياسات ترجمة، وكلاء، ناشرون، برامج أكاديمية، أرشفة، مهرجانات، وقنوات ترشيح نشطة.
ماذا نفعل؟ نكفّ عن انتظار لفتة عابرة ونبني هندسةً معاكسة لسلسلة الإقصاء. نُحوّل الترجمة إلى استثمار مستدام، بخرائط لغاتٍ واضحة وأولوياتٍ سنوية وميزانياتٍ معلنة، مع محرّرين وشركاء أجانب يتابعون النص من المخطوط إلى رفّ المكتبة. نؤسّس صناديق حقوق ووكالات أدبية عربية تتقن التفاوض العالمي. نُقيم كراسيّ للأدب العربي في جامعات مؤثرة، وملفات خاصة في مجلاتٍ كبرى، ودوراتٍ صيفية للنقّاد والمترجمين. نُعدّ «حقائب ترشيح» مكتملة لكتّابٍ مستحقين: سيرة نقدية، مختارات مترجمة، مراجعات منشورة، وأثرٌ أكاديمي مرئي. نحرص على زمن الوصول: لا نترك نصًا عظيمًا ينتظر عقدين حتى يخرج إلى الإنجليزية أو السويدية.
لا يعني هذا تخلّيًا عن معاييرنا أو لهاثًا خلف «المركز»؛ يعني فقط أن نمنح نصوصنا فرصةً عادلة للوقوف على المسرح ذاته. الجمال يُقنع حين يُرى، ويُستشهد به، ويجد طريقه إلى ذاكرة القرّاء بلغاتهم. وحين تُصلح السلسلة، تتراجع صدفة السياسة ويعلو صوت الأدب. عندها، إن جاءت «نوبل»، جاءت تحصيلَ حاصل. وإن لم تجئ، ظلّ ما بُني من بنيةٍ وترجمةٍ ونقدٍ مكسبًا لا ينقصه تصفيق الحفل الختامي.