عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    08-Aug-2025

في الأزمات.. كيف يصبح الاستماع لـ"البودكاست" كتفا يستند إليه؟

 الغد-ربى الرياحي

 "البودكاست" هو مساحة صوتية خالية من الضجيج البصري تجبر المستمع على استخدام خياله على الإنصات وليس الاستماع فقط. في عالم يزداد صخبه يوما بعد يوم يمنح البودكاست شيئا من السكون من البطء الضروري لفهم الذات والآخر. 
 
 
وهو أيضا الصديق الذي لا يراك، لكنه يفهمك والصوت الذي قد يأتيك في عتمة غرفة أو على رصيف الانتظار أو في منتصف الطريق إلى عملك ليهمس بما لم تجرؤ على التفكير فيه بصوت عالٍ، ففي كل حلقة هناك احتمالات جديدة ، حكايات، أفكار شهادات حية أو تحليلات دقيقة كلها تقود المستمع إلى أماكن غير متوقعة في داخله هو تجربة شخصية للغاية تبنى بين المستمع والصوت وحدهما. 
 
لم يكن أحمد الشاب الثلاثيني يتصور أن سماعة الهاتف الصغيرة ستكون وسيلته الوحيدة للتشبث بالحياة بعد تجربة اكتئاب حاد عقب فقدان والدته، فقد باتت الأيام بالنسبة له تمر ثقيلة وصامتة حتى صادف بودكاست عن الحزن. 
يقول؛ كانت مقدمة البودكاست تتحدث كما لو أنها تعيش وجعه لم تحاول أن تواسيه أو تنصحه بل فقط كانت تصف ما يشعر به بدقة. بدأ أحمد يستمع يوميا لحلقات تتناول الفقد الصمت واليأس، وكان الصوت وحده كافيا ليمنحه شيئا من الطمأنينة. اليوم، أحمد لا يدعي أنه شفي لكنه أصبح يخرج من غرفته محاولا العودة للحياة والتصالح مع ما حدث. 
الاستماع للبودكاست الذي يعالج قضايا معينة، يأتي في اللحظات الصعبة ليشبه الإمساك بخيط خفي وسط عتمة متشابكة. هو أكثر من كلمات تقال هو حضور دافئ في غياب الجميع صوت صادق وعميق يتحدث عن الألم عن الفقد عن القلق عن تلك الزوايا المنسية في الروح التي لم يقترب منها أحد. 
وفي لحظة ما ودون أن نشعر "تبدأ الكلمات المنطوقة على لسان شخص لا نعرفه بتضميد شروخ لا نجرؤ حتى على الاعتراف بوجودها". ربما لا يغير البودكاست الواقع، لكنه يمنح مساحة آمنة لاعادة ترتيب الداخل. فهناك بودكاست يشبه جلسة اعتراف وأخرى كأنها رحلة تأمل وبعضها يوقذ شمعة من الأمل في قلب متعب. 
أما نادين فهي أيضا وجدت في البودكاست طريقا للنجاة هي وبعد انفصالها عن زوجها شعرت بأن كل ما كانت تبنيه تهدم دفعة واحدة.
في تلك اللحظات الصعبة لم ترغب في التحدث مع أي أحد عن ما تمر به من وجع وخذلان لقناعتها بأن كل ما سيقال سيكون عبثيا لا معنى له ولن يغير شيء. نادين وجدت طريقها للنجاة من خلال بودكاست كان يحمل عنوانا بسيطا هو قلق.  
تقول؛ كنت أضع السماعات وأمشي لساعات طويلة. الصوت كان يخاطبني لا كخبيرة بل كامرأة مرت من هنا قبلي. الحلقات لم تعطها حلولا مباشرة لكنها جعلتها تفهم مشاعرها تضع لها، أسماء وتراها من الخارج. هي وبعد مرور عام على الانفصال تجد أن البودكاست لم يشف قلبها لكنه علمها كيف تحمله دون أن تنهار. 
ورنا هي الأخرى أم لطفلين كانت تعاني من ضغط نفسي بسبب التوتر الدائم بين العمل، الأمومة والزواج غير المستقر. لم تكن تملك وقتا لشيء لكنها وجدت لنفسها فسحة كل صباح وهي تقود سيارتها للعمل. تقول؛ بدأت تستمع لبودكاست عن الحياة اليومية والتوازن، فمجرد الحديث عن المعاناة العادية منحها شعورا بأنها ليست وحدها. رنا لم تغير حياتها جذريا لكنا صارت أكثر وعيا بنفسها. 
تظهر دراسات حديثة أن الاستماع المنتظم لمحتوى صوتي داعم وذو طابع علاجي يمكن أن يخفف من أعراض القلق والاكتئاب الخفيف إلى المتوسط خاصة حين يقترن بتقنيات مثل التأمل الصوتي أو الحديث العاطفي الصادق البودكاست بهذا المعنى لا يحل محل الطب النفسي لكنه يكمله ويوسع من دائرة الوصول إليه. 
وترى الاستشارية النفسية الأسرية والتربوية حنين البطوش أن الكثيرين  يجدون في الاستماع للبودكاست ملاذًا ومخرجًا من آلامهم الداخلية وشعورهم بالوحدة، ويعود ذلك لعدة أسباب جوهرية، أولًا؛ يمنح البودكاست المستمع شعورًا عميقًا بالرفقة، حيث يتحول صوت المضيف أو الضيوف إلى رفيق يومي يملأ الفراغ الناتج عن العزلة، خاصة لمن يعيشون بمفردهم أو يفتقرون للتواصل الاجتماعي المنتظم. 
ثانيًا، يوفر البودكاست التطبيع والتحقق من المشاعر، فعندما يتشارك المضيفون أو الضيوف تجاربهم الشخصية وتحدياتهم العاطفية والنفسية، يشعر المستمع بأن مشاعره طبيعية وليست فريدة، مما يخفف من عبء الخجل ويزيل الشعور بالانفراد بالألم، ويعمل البودكاست كآلية للهروب والتركيز، إذ يتيح الانغماس في محتوى شيق وملهم تحويل الانتباه بعيدًا عن الأفكار السلبية والمشاعر المؤلمة، موفرًا بذلك راحة نفسية مؤقتة، ويقدم البودكاست منصة للتعلم والتطور، فكثير من البرامج تقدم محتوى تعليميًا حول الصحة النفسية والتأمل واستراتيجيات التأقلم، مما يمكّن المستمعين من فهم أنفسهم بشكل أفضل وتطوير آليات فعالة للتعامل مع الألم.
ويمكن اعتبار البودكاست شكلاً من أشكال العلاج الذاتي إلى حدٍ كبير، نظراً للدعم الذي يقدمه على مستويات متعددة. فهو يوفر مساحة آمنة لـالدعم العاطفي والمعرفي، حيث يحصل المستمعون على رؤى، نصائح، وقصص ملهمة تعينهم على تجاوز تحدياتهم، كما يسهم الاستماع إلى النقاشات المتعلقة بالصحة النفسية في تعزيز الوعي الذاتي لدى المستمعين، مما يمثل خطوة جوهرية نحو التغيير الإيجابي.
ووفق البطوش؛ يعمل البودكاست على الحد من الوصمة المرتبطة بقضايا الصحة النفسية من خلال مناقشتها بصراحة، مما يشجع الأفراد على طلب المساعدة المتخصصة عند الحاجة، ويلعب دوراً في التحفيز على التأمل والتغيير، إذ يلهم المستمعين للتفكير بعمق في حياتهم، قيمهم، وأهدافهم، مما يدفعهم لإجراء تحسينات إيجابية، من المهم التأكيد على أن البودكاست لا يغني عن العلاج المهني للحالات النفسية المعقدة، بل هو أداة داعمة تكمل جهود العلاج الذاتي أو التقليدي.
تكمن قوة البودكاست وتأثيره العميق على الحالة النفسية، مقارنة بالقراءة أو مشاهدة الفيديو، في عدة جوانب فريدة، أولاً: البودكاست يخلق اتصالاً شخصياً مباشراً، حيث صوت المتحدث يولد إحساساً بالمحادثة الفردية، وهو ما يتجاوز حاجز البصر الموجود في الفيديو أو القراءة، مما يعزز الشعور بالقرب والألفة. 
ويتميز البودكاست بـقدرته على التزامن مع مهام أخرى، فالمستمع يستطيع الانخراط فيه أثناء ممارسة أنشطة يومية كالمشي أو القيادة أو ممارسة الرياضة، مما يجعله سهل الاندماج في الروتين دون الحاجة لتخصيص وقت إضافي. 
أيضا؛ يركز البودكاست بشكل كامل على المحتوى الصوتي والرسالة، بخلاف الفيديو الذي قد يشتت الانتباه بالمؤثرات البصرية، مما يسمح للمستمع بالتعمق أكثر في الأفكار والمشاعر المطروحة. 
ويدفع البودكاست المستمع إلى تفعيل الخيال بشكل أكبر لغياب الصور، مما يزيد من الانخراط العقلي والعاطفي مع المحتوى، ويجعل التجربة أكثر تفاعلية على المستوى الداخلي، خصوصا الذي يتفاعل مع مشاعر الناس وتجاربهم الشخصية.
وفي ظل هيمنة الضجيج الرقمي وتشتت الانتباه المستمر، يبرز البودكاست كقوة محورية تعيد إحياء مفهوم الإصغاء الواعي والعميق، بخلاف التصفح السريع للمحتوى أو استهلاك مقاطع الفيديو القصيرة، يتطلب البودكاست انخراطًا وتركيزًا ممتدًا، ما يشجع المستمعين على تبني عادات استماعية أكثر تأملاً، فهو يدرب الدماغ على الانتباه الكامل من خلال الانغماس التام في المحتوى الصوتي، ويمنح المستمع وقتًا ثمينًا للتأمل والتفكير في الأفكار المطروحة وربطها بتجاربهم الشخصية.
 ويعيد البودكاست تقدير قيمة الصوت كأداة قوية للتواصل والسرد والعلاج في عالم يغلب عليه الطابع البصري، وكما يوفر واحة هدوء تتيح الهروب من التشتت البصري والمحفزات المستمرة للبيئة الرقمية، بهذا يتجاوز البودكاست كونه مجرد وسيلة ترفيه ليصبح أداة فعالة للنمو الشخصي، الدعم العاطفي، وإعادة بناء ثقافة الإصغاء في حياتنا.
ويعمل البودكاست كمنصة قوية للتنفيس العاطفي غير المباشر فمن خلال الاستماع إلى قصص مشابهة أو اعترافات إنسانية صادقة، قد يجد المستمع في ذلك محفزًا لتفريغ المشاعر المكبوتة لديه، حيث يمكن للبودكاست أن يحرض على عملية البوح، حتى لو كانت داخلية وصامتة، مما يخفف الضغط النفسي المتراكم دون الحاجة للإفصاح المباشر أمام الآخرين، حيث هذا الفضاء الآمن والخاص يسمح للمستمع بمعالجة مشاعره وتجاربه بطريقة شخصية وعميقة.
وترى البطوش؛ أنه في بيئات يغلب عليها الضغط، الاغتراب، أو القمع الاجتماعي، يبرز البودكاست كمساحة داخلية آمنة، يلجأ إليها الأفراد للاستماع إلى أصوات بديلة وتجارب شجاعة لم يكن لها أن تُروى في وسائل الإعلام التقليدية. من خلال محتوى صادق وغير خاضع للرقابة، يمنح البودكاست المستمع فرصة للتفاعل مع أفكار خارج القوالب الجاهزة، ويشجّعه على إعادة التفكير بمفاهيمه ومعاييره الخاصة.
هذا النوع من "الاستماع الهادئ المتمرّد"، يشكّل شكلًا من أشكال المقاومة النفسية، حيث يجد الفرد في صوت الآخر صدىً لتمرده الداخلي، فيشعر بالقوة والانتماء لفئة تفكّر وتعيش بحرّية، حتى وإن كانت تلك الحرية لا تزال مؤجلة. إنه تمكين صامت… لكنه عميق الأثر.
وتقول مدربة المهارات الحياتية نور العامري في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتزداد فيه العزلة رغم الزخم الرقمي، يلعب البودكاست دورًا متناميًا كوسيلة تعويضية تمنح الإنسان الإحساس بالمرافقة والانتماء. عند الاستماع إلى بودكاست، يشعر الشخص وكأنه يشارك حديثًا دافئًا مع طرف آخر، حتى وإن لم يكن ذلك الطرف موجودًا فعليًا. هذا الإحساس البسيط بالمرافقة يُخفف من مشاعر الوحدة ويمنح المستمع عزاءً نفسياً.
لماذا يجد البعض في البودكاست عزاءً من الألم الداخلي؟
لأن البودكاست يحمل صوتًا بشريًا حقيقياً، دافئاً، غير مسرَّع أو محشوًّا بالتأثيرات البصرية، فإنه يخاطب منطقة داخل النفس تُشبه جلسات الفضفضة. خصوصًا حين يتناول البودكاست مواضيع إنسانية، تجارب شخصية، أو صراعات داخلية مألوفة، يشعر المستمع بأنه "مفهوم"، وأن أحدهم يمر أو مر بما يمر به.
البودكاست، بخلاف المحتوى المصقول على المنصات الأخرى، غالبًا ما يكون عفويًا، صادقًا، ومفتوحًا على نقاط الضعف الإنسانية. وهذا ما يجعله شبيهًا بالحديث الداخلي للمستمع، لكنه يصدر من شخص آخر، مما يمنحه طمأنينة وشرعية لمشاعره.
وتبين العامري أن بعض البودكاست علاجي ونفسي ويعيد البودكاست قيمة الاستماع الهادئ، والجلوس مع فكرة واحدة، ومع صوت واحد، ومع مشاعرنا دون إزعاج. في زمن الوحدة الرقمية والضوضاء النفسية، ليس غريبًا أن يعود الإنسان إلى الصوت؛ "صوتٌ لا يطالبك برد، ولا يُحاكم مشاعرك، بل يُرافقك بصمت ويمنحك شعورًا بأنك لست وحدك.
وهذا، في ذاته، شكل ناعم من أشكال العلاج".