عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Jul-2025

"التعليلة".. عادة حاضرة بالوجدان فهل غابت تفاصيلها عن البيوت؟

 الغد-تغريد السعايدة

 أصوات تتداخل، ضحكات تنطلق بين الحين والآخر، نبرة حادة تعلو احيانا، همسات أطفال تخفت ما إن يبدأ الكبار بسرد حكايات الماضي، وكأنها مغامرات شيقة. في ذات الجلسة تختلط الدروس والعبر، مجالس الرجال، وأحاديث النساء اللواتي يجلسن في أحد الأركان. كل ذلك كان في بيت التعليلة الكبير، الذي تلاشت تفاصيله اليوم من ملامح الإرث الأردني.
 
 
لم تكن للتعليلة مراسم محددة، ولا تقاليد صارمة أو بروتوكولات معقدة؛ كانت عادة متأصلة، لا تنقطع. لا تنطفئ إنارة البيوت إلا بعد أن تنفض تلك التعليلة الجميلة، ليمضي كل إلى بيته القريب، استعدادا ليوم جديد في الحقل، أو في المرعى، أو في مشاغل الحياة. كان المساء مساحة رحبة تجمع القصص والحكايات كما تجمع سنابل القمح، في جلسة لا تعرف الملل.
 
"التعليلة" عادة اجتماعية أردنية أصيلة، تشبه في روحها ما نجده في العديد من المجتمعات العربية المحيطة. لا هواتف تحمل، ولا مواعيد ترتب مسبقا، بل لقاءات يومية عفوية. قد تتخللها جلسة قصيرة لا تتجاوز الساعة أمام التلفاز الموضوع في وسط الغرفة، حيث يجتمع الكبير والصغير من أبناء وبنات العائلة، وأحيانا من الجيران وأهل "الحارة".
وبحسب ما دونته وزارة الثقافة الأردنية على موقعها الرسمي، تصنف "التعليلة" ضمن "الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات الشعبية"، حيث كان الناس يجتمعون بعد يوم طويل من العمل الشاق، لتكون التعليلة متنفسهم الوحيد للسهر وتبادل الأحاديث ومعرفة الأخبار. جلسات بسيطة بلا تكلف، قد لا تتعدى تقديم "كاسة شاي" أو "فنجان قهوة سادة"، تحقق الألفة والدفء بين الناس.
يتذكر موسى عواودة تلك السنوات البعيدة، حين كانت "التعليلة" عنوان الترفيه والمحبة ودفء العائلة الكبير. كانت مساحة تمنح الإنسان شعور الألفة والمودة، وتشعره بعزوة جميلة تتشارك أدق تفاصيل الحياة اليومية. للكبار، كانت التعليلة فرصة لتفريغ هموم يومهم الشاق؛ وللصغار متعة اللقاء والتجمع؛ أما لليافعين والشباب، فكانت كما يقال "المجالس مدارس"، حيث يتعلمون من أحاديث الكبار وحكاياتهم. وما إن تنفض التعليلة حتى يعود الجميع إلى بيوتهم للنوم، فليس هناك ما يضاهي تلك الجلسات في ترفيه النفس وملء القلب بالسكينة.
أما الخمسيني أبو عبدالرحمن، فيقول إن أجمل ما كان يعنيه خلال يومه هو “"التعليلة". يتذكر بهدوء ليالي القرية الوادعة، بلا ضجيج سيارات أو فوضى شوارع. الأطفال يخلدون إلى النوم مبكرًا، بينما الأب وأحيانا الأم يكونان في التعليلة. كان يرافق والده إلى "بيت الجد" في بيت العقد الكبير، حيث تعقد تلك الجلسات العامرة بالود والحكايات.
يضيف أبو عبد الرحمن أن ذاكرته ما تزال تنبض بتفاصيل تلك التعليلات، يذكرها دائما لأنها ساهمت في تشكيل شخصيته. كان يجد متعة كبيرة في الاستماع إلى أحاديث الكبار، عن العمل في الحقول، والخدمة في الجيش، وقصص البطولات والمواقف المشرفة. من خلال تلك الجلسات، تعرف على تفاصيل الحياة الأردنية لعقود طويلة، واطلع على أخبار محلية وعربية ما تزال راسخة في ذهنه حتى اليوم.
ويتفق عمران الصرايرة، الذي شارف على العقد السادس من عمره، مع مقولة “المجالس مدارس”. يمتلك اليوم موسوعة حية من القضايا العشائرية والعادات والتقاليد "والأصول" كما يصفها، ويؤكد أن معظم هذه المعارف تشربها من جلسات التعليلة اليومية في بيت والده، التي لم تنقطع يوما حتى وفاته قبل عدة سنوات.
تستذكر أم علاء عبيدات تلك الأيام الجميلة في بيت جدها الكبير، حيث لم تكن تمر ليلة دون حضور ضيوف البيت المعتادين: الأعمام، أبناء العمومة، الجيران، وكل من يمر مساء. لم تكن هناك مراسم رسمية ولا ترتيبات خاصة، ولا حتى أي كلفة مادية على أصحاب الدار. تبدأ الجدة منذ الصباح بتحضير القهوة السادة، وتجهز فناجين القهوة الكبيرة، ويتخلل السهرة أحيانا تقديم الشاي أو بعض الحلوى التقليدية التي كانت الجدة أو نساء العائلة يصنعنها بمحبة.
ويعلّق المختص في قضايا التراث والمجتمع الأردني، نايف النوايسة، في حديثه لـ"الغد" على هذا النمط الاجتماعي القديم، واصفا إياه بأنه "موضوع شيق يطيب الحديث فيه”". ويضيف: "بعد أن فارقتنا البساطة، ازدادت الحياة تعقيدا. ففي الماضي لم تكن هناك كهرباء ولا مظاهر حياة متطورة، بيوت بسيطة وأثاث متواضع ينسجم مع بساطة أهلها".
ويتابع النوايسة قائلا إن بيوت الطين كانت تؤثث بجمال قلوب أصحابها وبساطتهم ومحبتهم لبعضهم البعض. خلال ساعات النهار، كانت النساء يعقدن ما يُعرف بـ"دواوين القهوة"، يتداولن الدور فيما بينهن، ويتناقشن حول مشكلات العائلة، حيث تتجلى مظاهر التكافل الاجتماعي بأبهى صورها. لم يكن هناك بيت جائع، فالجميع متكاتفون رغم قلة الموارد.
أما "التعليلة" فدائمًا ما كانت تقام مساء، بعد صلاة المغرب أو العشاء، كما يوضح النوايسة. وفي بعض الأيام، يتفق مسبقا على أن "التعليلة عند بيت فلان"، ليلتقي الجميع في ذات الوقت.
وعلى الرغم من أن التعليلة ارتبطت إلى حد كبير بتجمع رجال العائلة أو الحارة، إلا أن ذلك لم يمنع حضور النساء، والأطفال، والشباب ايضا. وتقول إحدى السيدات متذكرة: "كان وجود أحد أفراد العائلة القادم من المدينة ضيفا في إحدى الليالي يضفي سعادة وبهجة على الأجواء، فيجتمع الجميع حوله ليستمعوا لأحاديثه وما يحمله من أخبار ومعلومات عن الحياة خارج القرية، خاصة إذا كان موظفا حكوميا في دائرة مهمة أو معلمًا يعمل في مدارس المدينة".
وفي تعليق على منشور يستحضر تفاصيل التعليلة الأردنية، كتب أحد الأشخاص قائلا: "حكايات الغولة، والحصيني ذو الذيل الطويل، والضبعة… كانت مسلسلات الماضي التي ننتظرها بشغف كل ليلة". وأضاف: "هذه الحكايات والأساطير والخرافات اختفت اليوم، ولم تعد تُروى أو تخيف أحدًا بعد أن أصبح الهاتف الذكي في أيدي الأطفال. لم تعد أحاديث الكبار تستهويهم، بل إن الكثير منهم لا يعرف حتى معنى كلمة تعليلة، بعدما استبدلت بـ"السهرة".
ويصنف الباحث نايف النوايسة التعليلة إلى نوعين رئيسيين: النوع الأول هو "التعليلة الصغيرة"، التي تقتصر على أفراد العائلة الممتدة، حيث يحضر الجميع بما فيهم النساء، وتدور خلالها أحاديث العائلة وسرد القصص والحكايات الشعبية. ورغم تكرار هذه القصص أحيانًا، إلا أنها كانت تروى في كل مرة بأسلوب جديد يحمل تشويقا ورسائل تربوية ضمنية.
أما النوع الثاني، فهو "التعليلة الكبيرة"، التي تجمع أبناء العائلة أو العشيرة بأعداد كبيرة، وكانت تتزين في العقود الماضية بوجود "شاعر الربابة". ويشير النوايسة إلى أن الجلسة كانت تمتد حتى آخر الليل دون أن يشعر الناس بالوقت، إذ لم يكن يقاس بالساعة، بل بإحساس التعب والنعاس، ليعود الجميع بعدها إلى بيوتهم حيث الفراش البسيط على الأرض، بلا أي تكلف أو تجهيز.
ويؤكد النوايسة أن التعليلة كانت تؤدي دورا مهما في الحياة الاجتماعية؛ فهي مساحة لاتخاذ قرارات مصيرية، مثل طلب يد فتاة للزواج، أو الاتفاق على قرار عائلي مهم. كما كانت تجسد أروع معاني التكافل الاجتماعي، حيث كان الجميع يتفقدون بعضهم بعضا، ويسأل عن الغائب، وتحل القضايا الأسرية والمالية في إطار من المحبة والتكافل.
اليوم، كما يقول النوايسة، تغير المشهد. انتشرت البيوت الفارهة في المدن والقرى، وامتلأت بالأثاث الفاخر وأجهزة التكنولوجيا الحديثة، من شاشات تلفاز وهواتف ذكية في كل زاوية من البيت. هذا التغير أدى إلى تراجع التعليلة بشكل كبير، وتزايد عزلة الناس عن بعضهم البعض. ويختم النوايسة، "اتسع العالم وضاقت البيوت، وغابت البساطة التي نستعيدها اليوم فقط في أحاديث الذكريات".