عمون-
في المنطق الفعلي، لا يوجد فرق في الأردن بين الدولة والحكومة والنظام، وهذا هو واقع الحال في الكثير مما يسمى دول العالم الثالث أو النامي، حيث لم يعد الباحثون الجادون يهتمون بالمنطق النظري الساذج الذي يبحث عادة في ما ينبغي أن يكون، ويكرس انفصاله عن الواقع الفعلي الذي تتجاوز حركته الجارية كل الإطارات المبحوث فيها سلفا، وباتت تستدعي جهدا علميا عمليا متسارعا لفهم عناصرها المتخلقة يوميا، والإحاطة بما تحمله من احتمالات يصعب حصرها والتنبؤ بها في عالم تنحسر فيه مساحات اليقين بمقدار ما تتوسع فيه المعرفة، التي كلما تقدمت اتسع الشك والغموض على حساب الثابت والمؤكد، حتى صار الحديث يجري حاليا عما يسمى الفكر اليومي.
وفي سياقات الفكر اليومي الذي يفرض نفسه على العالم الحقيقي، يبدو سؤال ما هي أهداف الدولة الأردنية، على بساطته بالغ التعقيد ، والإجابة عليه أكثر صعوبة ، وللتحايل عليه تلجأ وسائل الإعلام بشقيها الرسمي وغير الرسمي للتعميم والتبعيض ، وتتجنب المواجهة عبر الخوض في العموميات واستخدام الحيل اللغوية ، واستحضار الماضي والمستقبل ، وتبديل الحاضر بالغائب.
ومن حسن حظ الدولة في الاردن ، انها تعيش في عصر اضطراب إقليمي وعالمي ، يصد عنها الكثير من الاسئلة ، ويضع بين يديها الكثير من المبررات ، فتصبح مهمة الباحث صعبة للتأكد من صحتها ومدى ارتباطها فعلا بالوضع الخارجي المضطرب ، وقد يكون صعبا ان نطالب بالمساءلة في غياب الأهداف المحددة ، فما أصعب تحديد الأهداف ، وما أصعب الأفعال لتحقيقها ، وما أسهل تعقيد الأمور السهلة في الأروقة الرسمية.
وفي مثل هذه الأجواء الموصوفة ، تعفي الحكومة نفسها حتى من مسؤولية مواجهة المشاكل السهلة ، مثل : أزمة السير ، الكلاب الضالة ، التنظيم الحضري ، تطبيق قانون المقالع والمحاجر ، تطبيق قانون منع الاحتكار وحماية المنافسة ، الاختلالات في حالة الطرق النافذة والشوارع الداخلية والأرصفة ، التراخي المزمن في حماية الطبيعة والغابات والأراضي الزراعية ، أزمة عدم الاهتمام المزمن بحل المشاكل العمومية ، وتشجيع الناس تاريخيا على اتباع أساليب الاسترحامات الشخصية ، والبحث عن طرق النجاة الفردية الضارة ، ويمكن التوسع بلا نهاية بشرح المشاكل السهلة ، التي يغيب ذكرها في الكلام الرسمي العائم ، مع الاعتراف المفهوم ضمنا بالعجز عن حل المشاكل الصعبة مثل الفقر والبطالة وتدني مستوى الخدمات العمومية .
وفي هذه البِركة غير الراكدة، ترمي الحكومة حجرا آخر فوق الحجارة المتراكمة ، بيد وزير الداخلية ، فاتحا برميته ملف الظواهر الاجتماعية ، وبالتحديد المناسبات الاجتماعية ، مستسهلا ربما ما يظن أنه أمر سهل ، لكنه طبعا شيء يتعدى كل ما نظن ، لأنه يقع في باب ثقافة المجتمع، وثقافة المجتمع ليست سوى أعراف و تفاهمات ضمنية تنتشر بين الناس بالتوارث و القدوة والتقليد والتأثر والتأثير ، وتتعدل وتتغير وتموت بنفس الأساليب، ولا يمكن تعميمها على الناس بقرار أو مرسوم ، ولأن الظاهرة التي تطرق إليها الوزير تعتبر حديثة العهد نسبيا في المجتمع الاردني، فإنه يمكن القول بثقة أنها انتشرت في البلاد عبر التقليد والقدوة والتأثر والتأثير ، والناس لا تتأثر عادة ولا تقلد المستوى الأدنى بل تتأثر وتقلد وتقتدي بالمستويات الاعلى، وهنا تدور الدوائر على المستويات العليا في المجتمع، وفي قلب هذه المستويات الرؤساء والوزراء والمدراء ومن هم في حكمهم، فهل بوسع هؤلاء أن يتقدموا الصفوف فعلا، ليكونوا قدوة للناس في مناسباتهم وافراحهم واتراحهم ومنازلهم وسياراتهم واماكن إجازاتهم واستشفائهم ومدارس وجامعات ووظائف أبنائهم ..الخ ، لكي تنتشر العادات الطيبة في المجتمع ، فتقل مظاهر الإسراف والتبذير و التباهي والاستعراض ، فبمثل هذه الأساليب يمكن تعديل ثقافة المجتمع أو تغييرها نحو ما هو افضل.
ولان الشيء بالشيء يذكر نستذكر هنا رئيس وزراء سابق ظل يكرر بشكل يومي تقريبا، ما كان يسميه ثقافة العيب كسبب للبطالة بين الشباب ، في حين أن اولاده كانوا يتلقون التعليم في الخارج ثم زج بهم في اعلى المناصب ، ولان مثل هذه الامور بسبب تكرارها المستمر لم تعد تثير الاهتمام حقا ، فان صرخة الفنان موسى حجازين في مسرحيته الشهيرة الآن فهمتكم ، تقطع قول كل خطيب في هذا الأمر..