الغد-عزيزة علي
قال أستاذ النقد الأدبي في جامعة فيلادلفيا، الدكتور محمد عبيد الله "إن كتاب الدكتور رشيد النجاب "فلسطين في النثر العربي الحديث"، أكثر من مجرد مجموعة مقالات، إنه فسحة تأمل في تجارب إنسانية، وثقافية، وتاريخية، تحملنا إلى أعماق القضية الفلسطينية، من خلال قراءات متنوعة تغوص في أدب المقاومة، والسيرة الذاتية، والرواية، والشهادات التي توثق مشاهد من الذاكرة والوجدان.
جاء ذلك في حفل توقعي الكاتب والروائي الدكتور رشيد النجاب "فلسطين في النثر العربي الحديث"، الصادر عن دار "الآن ناشرون وموزعون"، الذي يضم (24) مقالا حول كتب إبداعية قرأها المؤلف وتفاعل معها.
أقيم حفل التوقيع في منتدى الرواد الكبار، أول من أمس، وأدارته المستشارة الثقافية للمنتدى، القاصة سحر ملص. وقدم خلال الحفل الناقد الدكتور محمد عبيد الله قراءة نقدية للكتاب.
وقال أستاذ النقد الأدبي في جامعة فيلادلفيا، الدكتور محمد عبيد الله "إن النجاب اختار كتابات متنوعة تشترك معظمها في التعبير عن الهم الفلسطيني بطرق مختلفة"، مشيرا إلى أن فن السيرة الذاتية حظي بحضور بارز، ربما لما يتيحه من ارتباط مباشر بالمرجع الواقعي، ولقدرته على أن يكون شهادة على العصر، وعلى ما تعرضت إليه فلسطين نتيجة عسف الاحتلال وما خلفه من نكبات وهزات أصابت حياة الإنسان الفلسطيني. وأشار إلى أن ذلك أدى إلى بروز ألوان مبدعة من المقاومة والرفض، ما تزال تتجدد وتتوالد، أملا في تحرير الأرض والإنسان.
وأضاف عبيد الله، إنه إلى جانب السيرة الذاتية، نجد اهتمام المؤلف بكتابات نثرية قريبة الصلة بها، مثل: أدب الرحلة، ورواية السيرة الذاتية، وبعض كتابات الأسرى الفلسطينيين، إلى جانب عدد من الروايات الفلسطينية أو العربية التي تتناول أحداثا تاريخية فلسطينية مهمة أو مؤثرة.
وبشكل عام، تدور هذه القراءات حول نماذج من النثر الأدبي الحديث المرتبط بفلسطين، مما يكشف عن جانب حيوي من حضورها الأدبي، ويقدم دليلا على ثراء القضية الفلسطينية وعدالتها وقوتها. كما يشير إلى أن المبدع العربي، والفلسطيني خصوصا، هو إنسان حر، يؤمن بعدالة قضيته وحق شعبه في حياة حرة كريمة، بعيدة عن أذى الاحتلال. وبين عبيد الله أن الكتابات التي تناولها المؤلف جاءت متنوعة، يجمع بينها التعبير عن الهموم الفلسطينية بطرق وأساليب مختلفة. وقد كان لفن السيرة الذاتية حضور لافت، وربما يعزا ذلك إلى ما تتيحه السيرة من ارتباط مباشر بالمرجع الواقعي، وما تمنحه من إمكانية لأن تكون شهادة حية على العصر، وعلى ما تعرضت إليه فلسطين، على وجه الخصوص، من عسف الاحتلال وما خلفه من نكبات وهزات ألقت بظلالها على حياة الإنسان الفلسطيني. مشيرا إلى أن هذه المعاناة أفرزت أشكالا إبداعية من المقاومة والرفض، ما تزال تتجدد وتتوالد، في سياق الأمل بتحرير الأرض والإنسان.
ورأى عبيد الله أن هذه القراءات الأدبية المتنوعة، التي جمعها النجاب في كتاب واحد، تمثّل لونا طيبا من ألوان التأليف الأدبي، إذ ينطوي هذا اللون على خيوط من تجربة القراءة بوصفها تجربة ذاتية عميقة تستدعي التفاعل الحي بين النص والقارئ. فيغدو النص، بذلك، ملكا للقارئ وجزءا من عالمه الخاص.
وتتجلى بعض ملامح الجمال في قدرة النصوص الأدبية المتفوقة على توسيع دلالاتها ومدلولاتها؛ فهي تعبر بداية عن كاتبها، لكنها لا تنغلق على هذه الدائرة، بل تتعداها لتتصل بالآخرين، وهو ما يتجلى في تجارب القراء والنقاد، حين يكتشفون في الكتب التي يقرؤونها شيئا من ذواتهم وتجاربهم. مبينا أن هذا الجانب الحميمي من تجربة القراءة يبرز في كتاب النجاب، خاصة حين يعرج خلال قراءاته على بعض تجاربه الشخصية، أو يسجل بعض التداعيات الذاتية، فيضفي بذلك بعدا من المشاركة الراقية بين القارئ والنص الأدبي.
وحول طبيعة هذه القراءات، قال عبيد الله "إنها تنتمي إلى الأدب الواقعي الحديث، الذي يستند إلى خلفيات متصلة بفكرة العدالة وقضايا العرب والشعوب الأخرى، أي إلى ما يعرف بالأدب الملتزم، المعبر عن القضايا العامة، حتى وإن انطلق من تجارب تبدو في ظاهرها ذاتية أو شخصية. فالفرد، في نهاية المطاف، ليس سوى مكونا من مكونات الحياة العامة، وحلقة من حلقات المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا".
وخلص عبيد الله إلى أنه يقدر تجربة المؤلف في اختياره هذه المجموعة المتميزة من المؤلفات الأدبية، التي يدعونا إلى مطالعتها، لنعيش جانبا من تجربته معها. وأشار إلى أن مقالات النجاب، رغم إيجازها، تشكل إطلالات ممتعة تبرز أهمية القراءة إلى جانب الكتابة، فهما حلقتان مترابطتان لا تقوم إحداهما من دون الأخرى.
من جهته، قال المؤلف الدكتور رشيد النجاب "إن القراءة والاهتمام بالكتب شكلا جزءا مهما من حياته منذ الصغر"، مشيرا إلى تعدد مصادر القراءة وتنوعها، إلا أن المكتبات العامة احتلت دائما الصدارة. وأضاف أن توفر الكتب في البيت، سواء أكانت تعود لشقيقاته الأكبر سنًا أو لوالده، كان له أثر كبير، حتى كتب والده المدرسية التي ألفها في مجالي الزراعة والأحياء لم يكن ليتجاوزها من دون قراءتها. وتابع النجاب "في مرحلة لاحقة، أصبحت أخصص جزءا من مصروفي اليومي لشراء الكتب، وهكذا نمت علاقتي بالقراءة، وترسخت وتعمقت، ولم تكن يوما مجرد تصفح عابر أو مرور سريع بين الصفحات. وما يزال كتاب أو أكثر يرسخ في الوجدان، رغم مرور سنوات طويلة على قراءته".
ثم تحدث النجاب عن مضمون الكتاب، قائلا "أثناء الإعداد لهذا الكتاب، صدرت النوفيلا الأخيرة لـ محمود شقير بعنوان منزل الذكريات، وهي عمل نسج فيه تجربة إنسانية فلسطينية بأسلوب يستلهم روح كتابين عالميين: أحدهما لياسوناري كاواباتا، والآخر لغابرييل غارثيا ماركيز. وقد استعان شقير بشيء من التناص، ما أكسب التجربة بعدا عالميا من دون أن تفقد خصوصيتها الفلسطينية". وبين المؤلف أنه، نظرا لتنوع مصادر قراءاته، كان من الضروري أن يعبر عن ذلك من خلال تناول كتب لا تقتصر على الروايات. ومن بين هذه الأعمال، جاءت شهادة الصحفي الفلسطيني إلياس نصر الله في كتابه شهادات على القرن الفلسطيني الأول، حيث رصد نصر الله تحولات متنوعة في الشكل، عميقة الأثر، وصاخبة الإيقاع. وقد ترسخت هذه الشهادات في ذاكرته منذ الطفولة، من خلال عين فضولية، مستكشفة، ومراقبة، سجلت كل ما رأت وخزنته. ثم جاءت خبراته اللاحقة لتكون، كما يتضح في المقال، نواة لهذا العمل التوثيقي الرائد.
وأشار النجاب إلى أنه تناول في كتابه قراءات في مذكرات اثنين من روّاد الحركة الشيوعية في فلسطين، خلال فترة تعد من أقسى الفترات وأشدها تحديا، وقد أعدت تلك المذكرات بأقلام تحمل كثيرا من المكانة والخصوصية. فقد قام "زيتونة الجليل" الشاعر حنا أبو حنا بإعداد مذكرات نجاتي صدقي، بينما أعد الدكتور ماهر الشريف مذكرات القائد الشيوعي محمود الأطرش.
كما أدرج جزء من مذكرات الشاعر حنا أبو حنا نفسه، بعنوان ظل الغيمة، ضمن هذه المجموعة المختارة من المقالات. وأوضح النجاب أن ما تتضمنه هذه المذكرات لا يقتصر على السيرة الذاتية فحسب، بل يتعداها ليشكل قراءة معمقة في التاريخ، الجغرافيا، اللغة، وعلم الاجتماع. إنها، كما وصفها، سيرة شعب ووطن، بقدر ما هي سيرة فرد.
كما تحدث النجاب عن كتاب المولودة، الذي تميّز بموضوعه المثير للجدل حول المناضلة المصرية الشيوعية "ماري رزنتال، وأشار إلى أن المذكرات أعدت بقلم ابنتها، التي قدمتها أيضا في فيلم وثائقي، روت فيه كيف دافعت والدتها عن حقها في الحصول على شهادة الميلاد المصرية، بالحماسة نفسها التي دافعت بها عن أفكارها ومبادئها، رغم ما تعرضت إليه، مع زوجها، من تنكيل واضطهاد.
وأشار النجاب إلى أن نكسة حزيران (يونيو) العام 1967، كانت جرحا عميقا في الوجدان العربي والفلسطيني، وقد تناولها العديد من الكتاب في معالجات أدبية متنوعة. لكن من بين هذه المجموعة يبرز مقالان لاثنين من الكتاب، هما: قاسم توفيق من الأردن، والدكتورة إيمان يحيى من مصر، وقد عايشا تجربة النكسة تقريبا في المرحلة العمرية نفسها، حين كانا ما يزالان في سن المراهقة. وتساءل النجاب: كيف تبلورت تجربة كل منهما في التعامل مع النكسة بعد نحو نصف قرن؟ فكتب قاسم توفيقا لرواية ليلة واحدة تكفي، بينما كتبت الدكتورة إيمان يحيى "قبل النكسة بيوم".
وفي السياق نفسه، توقف النجاب عند الكاتب والمفكر الفلسطيني عبد المجيد حمدان (أبو وديدة)، مشيرا إلى أنه أثرى المكتبة الفلسطينية والعربية بعدد من العناوين التي تمتاز بالعمق في بحثها والجرأة في طرحها. وقدم في كتابه وحدث أن نجوت ما يتجاوز السيرة الذاتية، متناولا عددا من المحاور الرئيسة في سياق سردي أدبي، من بينها: أحوال التعليم، وقضايا المرأة، والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة في الحقبة التي عاشها.