الراي
فنجان قهوة وصوت تقليب ورق الجريدة في كل صباح، عادة قديمة أحاول أن أستعيدها، كنت أظنّ أنها خالدة، لكنني أكتشف، مثل غيري، أن الورق صار خفيفًا، ليس بسبب التطور التكنولوجي وحسب، بل لأن الصحيفة نفسها تتبع حمية رقمية قاسية منذ سنوات.
وما يزال السؤال معلّقًا في الهواء: هل انتهت الصحافة الورقية حقًا، أم أنها فقط تمرّ بمرحلة دراما وجودية تشبه تلك التي يعيشها بعض الكتّاب حين يرفضون تحديث هواتفهم؟
دعونا نبدأ من المشهد العالمي، ففي الولايات المتحدة - مركز الصناعة الإعلامية الحديثة- لا تزال بعض الصحف الورقية، مثل The New York Times وThe Wall Street Journal، تحافظ على جزء معتبر من الاشتراكات الورقية، لكن الزيادة التي يتداولها البعض ليست زيادة في المبيعات المطبوعة بقدر ما هي زيادة في الاشتراكات الرقمية التي صارت تشكّل العصب الأساسي لإيرادات المؤسسات الصحفية.
تقرير حديث للموقع الاميركي (Pew Research Center)، يؤكد أن الإصدارات الورقية تواصل تراجعها المستمر منذ أكثر من 15 عامًا، بينما تنمو الاشتراكات الرقمية بشكل مطّرد، وبكلمات أبسط: الأميركيون لا يعودون إلى الورق… هم فقط يدفعون مقابل الأخبار أكثر مما قبل، ولكن على الشاشة.
إقليميًا، يبدو أن الصحافة الورقية في الشرق الأوسط تعيش ما يشبه "السنوات الثقيلة"، وفق أرقام الرابطة العالمية للصحف (WAN-IFRA)، خسرت الصحف العربية نسبة كبيرة من إيرادات الإعلانات الورقية بعد 2020، ولم تنجح أغلبها في استعادة ثقلها السابق، بعض دور النشر حاولت الإنعاش عبر رفع الأسعار أو تخفيض الصفحات، لكن القارئ العربي مثل كثيرين حول العالم، أصبح يرى الهاتف أسرع وأخف وزنًا من جريدة تستهلك حبرًا ووقتًا.
أما في الأردن، فالقصة أكثر تعقيدًا، وربما أكثر شاعرية أو مأساوية، فتشير تقديرات الشركة الألمانية (Statista) التي تعد من أكبر منصات الإحصاءات والبيانات في العالم، في تقرير صدر عام 2025 توقع أن تصل الإيرادات في قطاع الصحف والمجلات الرقمية في الأردن إلى 19.62 مليون دولار خلال العام الحالي، وتوقعت أن يسجل القطاع معدل نمو سنوي مركب بنسبة 2.51٪ خلال الفترة 2025–2030، مما يؤدي إلى حجم سوق متوقع يبلغ 22.21 مليون دولار بحلول عام 2030.
وتوقع أيضا أن يصل عدد مستخدمي هذا القطاع في الأردن إلى 4.04 مليون مستخدم بحلول عام 2030، وسيكون معدل انتشار المستخدمين في الأردن 24.11٪ في 2025 ومن المتوقع أن يرتفع إلى 33.83٪ بحلول 2030.
ومن المتوقع أن يكون متوسط الإيرادات لكل مستخدم في الأردن 7.11 دولار أميركي، أما الى المستوى العالمي، ستولد غالبية الإيرادات في الولايات المتحدة، بمقدار 16.73 مليار دولار في عام 2025.
وهذا يترجم أن سوق الصحف والمجلات الرقمية في الورد يتحول تدريجيًا نحو المنصات المحمولة، ما يعكس تغير تفضيلات المستهلكين نحو الحصول على الأخبار بشكل أكثر سهولة وسرعة، حيث أكد التقرير أن سوق الصحف والمجلات الرقمية في الأردن يمر بمرحلة تحول تدريجي نحو المنصات الرقمية التفاعلية، مع فرص واضحة لزيادة عدد القراء والإيرادات الإعلانية، شريطة أن يواصل الناشرون الابتكار ومواكبة تفضيلات المستهلكين الشباب وتوجهاتهم الرقمية.
أما على مستوى غرف الأخبار، فقد كشفت الباحثة منال مزاهرة الأستاذة المشاركة في كلية الإعلام بجامعة البترا في دراسة عام 2023، أن المؤسسات الورقية تواجه مشكلات أعمق من التكنولوجيا: ضعف التخطيط، وانخفاض الإيرادات، وتراجع الإعلانات، وغياب استراتيجية تحول رقمي حقيقية.
خلال جائحة كورونا، كتبت الصحف الأردنية فصلًا مؤلمًا من قصتها، فبحسب تقرير معهد الجزيرة للإعلام، تراجع التوزيع إلى النصف تقريبًا، وانخفضت الإعلانات بنسبة وصلت إلى 60٪، بينما وجد الصحفيون أنفسهم أمام معادلة قاسية: تكلفة ورق أعلى، وإعلانات أقل، وقارئ أسرع هروبًا.
ورغم كل ذلك، لا تبدو القصة على وشك النهاية، الصحافة الورقية قد لا تعود كما كانت، لكنها تملك فرصة نادرة إذا تخلّت عن فكرة أنها مجرد "ورق"، فالمستقبل كما تقول التجارب العالمية لمن يجمع بين الحرف التقليدي والذكاء الرقمي، بين تحقيقات عميقة لا تُكتب على عجل، ومنصات رقمية تعرف كيف تخاطب جمهورًا يقرأ بعينه قبل عقله.
قد تتراجع الصحف الورقية، نعم، لكن بريقها لم ينطفئ تمامًا، وما دام هناك من يحب رائحة الحبر الطازج، ستظل الصحيفة جزءًا من المشهد، حتى ولو أصبحت "قطعة كلاسيكية" وسط عالم سريع ومتقلّب، وعلى أقل تقدير تعمل على تغيير المحتوى ليكون أقرب للشارع لكي تعيد بعض البريق مع ربطه رقميا، لعل نجد من يحب احتساء القهوة الممزوجة برائحة الحبر.