الدستور
المرء كثير بأخيه- حديث.
في عام 2008، وجّه رئيس الوزراء الصهيوني إيهود أولمرت نداءً عاطفيًا إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، قال فيه: خلال الخمسين عامًا القادمة، لن تجد زعيمًا «إسرائيليًا» واحدًا يقترح عليك ما أقترحه عليك الآن. وقّع عليه، وقّع عليه وغيّر التاريخ.
كان أولمرت يحثّ الرئيس عباس على توقيع اتفاق لترسيم الحدود بين الكيان الصهيوني والدولة الفلسطينية المستقبلية، إذ كان يؤمن بأن هذا الاتفاق قد يكون السبيل لتحقيق السلام في المنطقة.
هذا ما يكشفه البرنامج الوثائقي الذي بثّته هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، وأعدّته الصحفية الشهيرة نورمان بيرس، تحت عنوان «الطريق إلى السابع من أكتوبر».
يظهر في البرنامج رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إيهود أولمرت وهو يحمل خريطةً قائلاً: «هذه هي المرة الأولى التي أُظهر فيها هذه الخريطة وأعرضها على الرأي العام. لو وافق عليها الفلسطينيون، لكانت هناك دولة فلسطينية قائمة على 94% من الضفة الغربية وقطاع غزة.»
قدّم أولمرت هذه الخريطة إلى الرئيس محمود عباس خلال اجتماعٍ عُقد في القدس المحتلّة بتاريخ 16 أيلول 2008، وكانت الخطة تربط بين غزة والضفة الغربية، وتفكّك المستوطنات الكبرى في الضفة، مع ترحيل مئات الآلاف من المستوطنين إلى داخل فلسطين المحتلة عام 1948.
ولم تكن هذه الفكرة وليدة تلك اللحظة، بل طُرحت في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وقد نفّذ شارون جزءًا منها عندما انسحب من غزة وفكّك المستوطنات هناك، وهو ما اعتُبر حينها خيانةً للشعب اليهودي.
إلا أن الاجتماع انتهى بالفشل، إذ طلب الرئيس محمود عباس نسخةً من الخريطة لعرضها على خبراء الحدود، غير أن أولمرت رفض تسليمها له قبل أن يوقّع عليها.
يعلّق أولمرت على ذلك الاجتماع قائلًا: «لقد أضعنا فرصة، كنا على وشك صنع التاريخ.»
أما رفيق الحسيني، رئيس ديوان الرئاسة آنذاك، فيعلق قائلًا: «لقد ضحكنا؛ إذ كان الفلسطينيون يدركون أن الاتفاق لن يُكتب له النجاح، فحينها كان أولمرت متورطًا في قضايا فساد، وقد أعلن عن نيّته الاستقالة.»
ويضيف الحسيني: «مهما كان أولمرت جادًّا، فإنه كان عاجزًا، وكانت خطته تلك لن تقودنا إلى أي مكان.»
وبعد عدة أشهر من ذلك اللقاء، وتحديدًا في كانون الثاني ، أُطلقت صواريخ من غزة، فأمر أولمرت بشنّ عمليةٍ عسكرية أطلق عليها اسم «الرصاص المسكوب». وفي شباط من العام التالي، عاد نتن ياهو إلى الحكم، وكان واضحًا وصريحًا في معارضته لحلّ الدولتين.
يبتسم الحسيني ويقول إن أولمرت أخبره بأن توقيع الاتفاقية سيكون خطوة حكيمة من جانب الرئيس عباس، مضيفًا: وإن حاول أي رئيس وزراء صهيوني في المستقبل إلغاء هذه الاتفاقية، فسيكون بالإمكان دائمًا المطالبة بتنفيذها، وإقناع العالم بأننا نحن من يفشل السلام.
ويقول أولمرت حسب تعبيره إن هذه كانت واحدة من الفرص الضائعة التي أضاعها الفلسطينيون، مضيفًا أنها تضاف إلى سلسلة الفرص السابقة. وفي السياق ذاته، يستشهد بالسياسي الصهيوني الشهير أبا إيبان الذي قال عبارته الشهيرة: «الفلسطينيون لا يفوّتون أبدًا أي فرصة لتفويت الفرص.» وقد أصبحت هذه المقولة تُتداول بكثرة عند مناقشة القضية الفلسطينية.
لقد أصبحت هذه القصة جزءًا من الماضي، لكنها تبيّن بوضوح كيف يمكن لقرارات القادة أن ترسم مستقبل الشعوب. وإن صحّ ما ورد في هذا البرنامج الوثائقي، فقد كانت تلك بالفعل من الفرص الضائعة.
للأسف، فإن أحد الدروس المستخلصة من هذه القصة هو أن الانقسام الفلسطيني بين سلطةٍ في الضفة الغربية وحركةٍ في غزة؛ فالأولى تستمد شرعيتها من التمثيل الرسمي والاعتراف الدولي، بينما الثانية تستمد شرعيتها من صناديق الاقتراع، ولكلٍّ منهما برنامجه المختلف.
يضاف إلى ذلك وجود اتهاماتٍ بأن بعض الأطراف تستفيد من الوضع القائم، سواء عبر امتيازاتٍ اقتصادية أو سياسية، فيما يرفض آخرون السلام لأسبابٍ سياسية أو أيديولوجية. وهكذا، يجد الطرفان نفسيهما متفقين على أمرٍ واحد: عدم الاتفاق.
وحتى نكون أكثر إنصافًا، لم تُبدِ يومًا الولايات المتحدة أو الكيان الصهيوني أيّ جدّيةٍ حقيقيةٍ في تحقيق سلامٍ عادلٍ يضمن للفلسطينيين حقوقهم، وفي الادبيات الامريكية فان المفاوضات تهدف عادة الى تحقيق تنازلات إضافية من الفلسطينيين، لذا كان الرفض الفلسطيني في كثيرٍ من الأحيان نابعًا من فقدان الثقة.
ولا يمكن أن نغفل حقيقة أنّ هذا الانقسام يُغذَّى باستمرار من قبل الصهاينة، الذين يرفضون أيّ شكلٍ من أشكال التوافق الفلسطيني، حتى وإن كان ثمن ذلك حربًا جديدة. ففي نيسان عام 2014، وقّعت حركتا حماس وفتح اتفاقية مصالحة، وشُكّلت حكومة تكنوقراط لم يكن أيّ من أعضائها من حماس، لكنّ الصهاينة رفضوا الاتفاقية، ووصف مجرم الحرب نتن ياهو الرئيسَ عباس بأنه لا يقلّ «إرهابًا» عن حماس، وأوقف تحويل رواتب 43 ألف موظفٍ في السلطة الفلسطينية، ثم بعدها انطلق عدوان جديد على غزة.
ونحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من الصراع الفلسطيني–الصهيوني، تحمل عنوان السلام والإعمار، غير أنّ الفلسطينيين لن يتمكّنوا من مواجهة هذا التحدي ما دام الانقسام قائمًا ومستمرًا، وسيظلّ الآخرون يتحدّثون باسمهم.