الدستور
لم يكن فوز زهران ممداني في نيويورك حادثة انتخابية عابرة، بل حدثا يشبه اعترافا متأخرا من مدينة المال بأنّ الإنسان غاب طويلا عن حساباتها. فأن يختار قلب الرأسمالية ابن مهاجرين اشتراكيا ديمقراطيا، فذلك يعني أنّ الوعي الأميركي بدأ يبدل أسئلته، ويبحث عن نفسه في الأزقة لا في الأبراج.
حمل ممداني إلى الناس ما افتقدوه طويلا: صوتا يشبههم. لم يتحدث عن العظمة الأميركية، بل عن الإيجار، والنقل العام، وأحلام الشباب الذين يقايضون الوقت بالحياة. خطابه كان بسيطا كقطعة خبز، لكنه كشف هشاشة منظومة ضخمة كانت تظن أنّ رفاه القلة يمكن أن يغطي ألم الكثرة.
في المقابل، واجه الرجل ماكينة إعلامية حاولت اغتياله معنويا بتهم جاهزة. لكنه مضى كمن يعرف أنّ المعركة ليست بين اليمين واليسار، بل بين من يملك القرار ومن يملك الحاجة. انتصر لأنّه صدّق أنّ السياسة يمكن أن تعود إلى معناها الأول: خدمة الناس لا إدارة المصالح.
أما نحن العرب، فقد قرأنا فوزه بعين العاطفة لا بعين الوعي. احتفلنا كأنّنا انتصرنا، كأنّ ممداني رفع راية الإسلام في بورصة وول ستريت. نسينا أنّ الرجل لم يربح بدينه، بل بقدرته على إصلاح نظام فقد اتزانه. نحتاج أن نتعلم من قصته أنّ التغيير لا يولد من الانفعال، بل من تراكم الوعي والعمل.
في عمق المشهد، ثمة ارتباك أميركي واضح. الحزب الديمقراطي يقف بين جيل يطالب بالعدالة الاجتماعية وجيل يخشى المساس بتحالف المال والإعلام. والحزب الجمهوري يكتشف أنّ لغته القديمة لم تعد تقنع أبناء المدن الذين يريدون فرصا لا شعارات. أما ترمب، الذي اعتاد صنع الخصوم من الخيال، فيواجه خصما لا يخاف من الكلمة ولا يهرب من الأسئلة.
قد لا يغير ممداني وجه أميركا بين ليلة وضحاها، لكنّه فتح نافذة لتيار جديد يرى السياسة بوصفها علاقة أخلاقية لا صفقة. وربما، في عمق المدينة التي لا تنام، بدأ حلم خجول يتشكل: أن تكون العدالة الاجتماعية ممكنة حتى في زمن الرأسمالية المتوحشة.
فوز ممداني ليس نهاية طريق، بل بداية مرآة كبرى. فيها ترى أميركا نفسها، وفيها نرى نحن هشاشتنا أيضا، حين نفرح بانتصارات الآخرين أكثر من بحثنا عن انتصارنا الذاتي.