الغد-عزيزة علي
لا تحكي رواية "الصائل" للروائي محمد سرسك، ما جرى فقط، بل تفتح نوافذ على ما جُهل أو أُريد له أن يُنسى. بأسلوب سردي محكم، بحيث يغوص الروائي في طبقات التاريخ الفلسطيني المعقّد، ليعيد تشكيل الوعي بالحدث، لا بوصفه ماضيًا منتهيًا، بل واقعًا متجددًا.
كما ان رواية "الصائل"، التي صدرت عن دار الفينيق للنشر والتوزيع، ليست مجرد حكاية عن احتلال، بل تفكيك دقيق لشبكات التمهيد له؛ حيث يتقدّم الاقتصاد على البندقية، وتُصاغ الخيانة أحيانًا في هيئة ضيافة، وتُمحى الذاكرة قبل أن تُمحى الجغرافيا.
"في ظل هذه الأجواء، أُقيم حفل توقيع الرواية الذي نظمته لجنة القصة والرواية في رابطة الكُتّاب الأردنيين. وشارك في الحفل، الذي أُقيم أول من أمس في مقر الرابطة، كلٌّ من الروائي أُسيد الحوتري، الذي قدّم قراءة نقدية، والدكتور أمجد الزعبي، الذي تناول الرواية من زاوية تاريخية، كما قدّم الروائي محمد سرسك شهادة إبداعية. وأدار الحفل الروائي عبد السلام صالح.
قدّم الدكتور أمجد الزعبي قراءةً تاريخية في الرواية، في دراسة بعنوان "السردية التاريخية في رواية الصائل لمحمد سرسك"، قائلا: يشكّل البناء الكلي للتاريخ كلَّ ما أحاط بالإنسان زمنيًا، وما فعله في محيطه المادي وتفاعل معه، وما عبّر عنه بمختلف الوسائل المادية والمعنوية (الفكرية)، مُشكِّلًا بذلك حضارته من خلال تفاعل ثلاثي الأبعاد: "تفاعل الإنسان مع الإنسان: تمثّل فيما أبدعه من معارف، وسنّه من قوانين، وما أنشأه من أنظمة ومعاملات".
وقال الزعبي نقف أمام رواية "الصائل"، والتي يمكن اعتبارها سردية تاريخية بامتياز. لقد نجح الروائي، عن وعي تام، في استحضار الحدث التاريخي، ومعالجة عناصره، وأسبابه، وتفاصيله، بمنهجية موضوعية واضحة.
وتحدث الزعبي عن الحدود الزمانية للرواية تمتد إلى نهاية القرن التاسع عشر، وصولًا إلى بداية الانتداب البريطاني على فلسطين (تموز 1920–1921)، وهو إطار زمني بالغ الأهمية لفهم تحوّلات المنطقة، وسياقات تشكّل الصراع. والحدود المكانية للرواية: تدور أحداث رواية الصائل في فلسطين، حيث تتنقل بين القرية والمدينة، لتُبرز التناقضات والتحوّلات التي طرأت على البنية المجتمعية في تلك المرحلة. الكلمات المفتاحية التي تؤطّر الرواية: التغلغل الصهيوني – الإنسان الفلسطيني – المقاومة.
وأشار الزعبي إلى أن الرواية تتناول تاريخ القرية الفلسطينية، مستندة إلى دلالات رمزية تتكرر طوال السرد، أهمها: "المقام: كمركز روحي وثقافي واجتماعي، يُرمز به إلى جذور الانتماء والهُوية. شجرة الزيتون: بوصفها شجرة مقدّسة، تمثّل الأرض والارتباط العميق بها، كما ترمز إلى الثبات والصمود في وجه محاولات الاقتلاع والطمس.
وعن المواضيع الرئيسة التي عالجها الراوي: أولًا: الحالة الاجتماعية حيث أظهر الروائي وعيًا دقيقًا بالتغيّرات الاجتماعية التي طرأت على المجتمع الفلسطيني. فقد نقل لنا صورة حيّة لمكونات القرية وبنيتها الاجتماعية، من خلال شخصيات تمثّل طبقات اجتماعية مختلفة: "المختار السلطة المحلية التقليدية"، "المُلّاك والوجهاء (النخبة الاقتصادية"، "الفلاحون الطبقة الكادحة"، "المعلّمون النخبة المثقفة". يُظهر الكاتب كيف أن هذه المكوّنات تفاعلت مع المتغيرات الجديدة، خاصة مع تزايد التغلغل الصهيوني، وتنامي الشعور بالخطر على الأرض والهوية.
ثانيًا: الحالة الاقتصادية: حيث سَطَّر، سرسك في رواية "الصائل"، تاريخًا اقتصاديًا واقعيًا لمجتمع القرية الفلسطينية، الذي كان قائمًا في جوهره على الاكتفاء الذاتي. وقد نجح في نقل معاناة الفلاح الفلسطيني اليومية، وما يواجهه من أعباء معيشية قاسية، في ظل محدودية الموارد واعتماده على الزراعة التقليدية.
وقد برز التحدي الأكبر أمام الفلاح في مواجهة الاستيطان الصهيوني المتسارع، المدعوم بإمكانيات مالية وتقنية حديثة. فبينما كان الفلاح الفلسطيني يزرع أرضه بأساليب يدوية بسيطة، كانت المستوطنات تُبنى وفق تخطيط زراعي متقدم، وتُدار بآليات حديثة، وبدعم سياسي واقتصادي غربي، مما خلق فجوة اقتصادية وتهديدًا وجوديًا مباشرًا للقرية الفلسطينية.
ثالثًا: الجانب السياسي: تناولت الرواية بعمق التحولات السياسية الكبرى التي عصفت بفلسطين في تلك المرحلة التاريخية الحرجة، ومن أبرز المحاور التي عالجها الكاتب: "أوضاع الحكم العثماني في أواخر أيامه، بما في ذلك سياساته المتذبذبة تجاه الحركة الصهيونية، والتي اتسمت في بعض الأحيان بالتراخي أو اللامبالاة، مما سمح للتغلغل الاستيطاني بالتوسّع تدريجيًا. الحركة الصهيونية منذ مؤتمر بال الأول (1897): حيث يظهر في الرواية وعي دقيق بخلفيات هذا المؤتمر، ووضوح أهدافه المعلنة في تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، بدعم من القوى الإمبريالية. إصدار وعد بلفور"1917"، وهو لحظة مفصلية سلّطت الرواية عليها الضوء، بوصفها خيانة تاريخية لحقوق الشعب الفلسطيني، وتعبيرًا عن التحالف بين الاستعمار البريطاني والمشروع الصهيوني.
ورأى الزعبي أن الروائي قدم معلومات دقيقة حول الحركة الصهيونية: حيث تتجلّى في الرواية معرفة المؤلف الدقيقة بمراحل تطور الحركة، وآلياتها السياسية والاستيطانية، ومؤسساتها، مما يعكس عمقًا توثيقيًا واعيًا في خلفية السرد. دخول الاحتلال البريطاني إلى فلسطين: وصفت الرواية بموضوعية مؤلمة السياسات البريطانية، التي اتخذت طابعًا تضييقيًا ممنهجا على الفلسطينيين، بهدف دفعهم إلى بيع أراضيهم وتهجيرهم، في مقابل تسهيلات ودعم متواصل للاستيطان اليهودي.
ثم تحدث الزعبي عن أسلوب الكاتب ورسالة الرواية قائلا: إن الرواية اتسمت بالكتابة التاريخية في بعدّة سمات لافتة، تُبرز تمكنه من أدوات السرد التاريخي والأدبي على حد سواء: "فهم عميق للتاريخ، ووعي بالتحولات الاجتماعية والسياسية، مقرون بثقافة عالية مكّنته من الغوص في التفاصيل دون الوقوع في التكرار أو السرد الجاف.
قدرة إبداعية واضحة في التوظيف الفني لعناصر الرواية، سواء في بناء الصور، أو إدارة الحوارات، أو رسم الشخصيات، مما أضفى على النص بُعدًا إنسانيًا وفنيًا. أسلوب آسر وجاذب، يجبر القارئ على الاستمرار، وكأنّه يشاهد "مشهدًا تاريخيًا" متكامل العناصر، كُتب بحرفية عالية، بعيدًا عن التكلّف أو الإقحام المباشر للوقائع.
خلص الزعبي إلى أن الرواية تشكل رسالة ذات اتجاه مزدوج: إلى الأجيال الشابة: بهدف تقديم بناء معرفي تاريخي حي، بعيد عن التلقين المدرسي، يربطهم بهويتهم وأرضهم من خلال سرد ممتع ومعمق. إلى النخب الثقافية والفكرية: لتدفعها إلى إعادة طرح الأسئلة، ومراجعة القرارات التاريخية، وإعادة قراءة المرحلة بعين أكثر وعيًا وعدالة.
من جانبه، تحدّث الروائي أُسيد الحوتري عن "آليات التمهيد للاحتلال في رواية الصائل لمحمد سرسك"، قائلاً: "تغوص رواية الصائل في عمق البنية التحتية التي مهدت للاحتلال الصهيوني، متجاوزةً السرد التوثيقي التقليدي نحو تحليل آليات الهيمنة الناعمة التي سهلت للمستعمر اقتحام الأرض والوعي. فالمحتل لا يدخل بوصفه قوةً عسكرية فقط، بل يتسلل عبر الاقتصاد، والدين، والخطاب الثقافي، متخفّفا من صورته العنيفة، ليفرض واقعًا جديدًا من دون إطلاق رصاصة واحدة.
تُظهر الرواية ببراعة كيف تسلّل "أبو إسحاق" – الذي يُجسّد في رمزيته صورة المحتل – من بوابة الاقتصاد، مقدّمًا نفسه في البداية كـ"منقذ زراعي" للفلاحين، ليحولهم لاحقًا إلى مدينين وأُجراء ضمن منظومة استغلال مموّهة بوعود زائفة وأدوات ناعمة. لقد كانت التبعية المالية المفتاح الأول لإخضاع القرية، كما تقول الرواية بوضوح: "نصف أهل قريته مدينون لأبي إسحاق، والنصف الآخر يعمل عنده".
وهكذا تم تفكيك البنية الاجتماعية التقليدية للقرية تدريجيًا؛ فقد تحوّل المختار ووجهاء القرية إلى أدوات داخل مشروع السيطرة، بينما جرى احتواء بعض الشباب، مثل شخصية عطية، ليُستثمروا كـ"واجهات محلية" تُضفي الشرعية على الهيمنة الخارجية، وتُسهم من حيث لا تدري في تعميقها.
هذا التصوير يُجسّد بدقة مفهوم "الاستعمار بالوساطة المحلية"، حيث يُعاد إنتاج الاحتلال من الداخل، لا بقوة السلاح فحسب، بل عبر تفكيك الذات المجتمعية من خلال الحاجات اليومية والعلاقات الاقتصادية.
تنتقد الرواية بشكل واضح أساليب الاستعمار الرمزي، حيث يستثمر المحتل علاقاته الاجتماعية والدينية لإعادة إنتاج شرعيته وزعزعة التماسك الوطني. فهو يتقمص هوية "المحلي"، مستخدمًا الخطاب الديني كأداة مزدوجة؛ حيث يمنح "قبرًا" إسلاميًا بعدًا توراتيًا، في محاولة لإعادة كتابة التاريخ وفرض رواية دينية متداخلة تخدم أهداف الهيمنة.
سياسيًا، تُوثّق رواية الصائل بوعي حاد الدعم الغربي للمشروع الصهيوني، وعلى وجه الخصوص الدور البريطاني المحوري، الذي تجسّد بدايةً في وعد بلفور 1917، والذي شكّل غطاءً سياسيًا وقانونيًا لشرعنة الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
لا تتعامل الصائل مع الاحتلال كواقعة فجائية أو لحظة صدام مفاجئة، بل تُفكّك، بذكاء سردي وتحليل دقيق، الشبكة المعقّدة التي مهدت له؛ من الاقتصاد إلى الدين، ومن التواطؤ المحلي إلى التآكل السياسي.
بهذا المعنى، تُقدِّم الرواية نموذجًا روائيًا واضح المعالم من أدب ما بعد الكولونيالية، إذ تكشف كيف يبدأ الاحتلال من القرض قبل البندقية، ومن الضيافة قبل الحرب. إنها رواية توعوية بامتياز، تُنبه القارئ إلى أن "الصائل لا يبدأ بالصَّوْلة، بل بالابتسامة"، ولا يرحل إلا وقد نهب الأرض والكرامة والذاكرة معًا.
من جانبه، يقول الروائي محمد سرسك عن رواية الصائل: "هي عودة إلى المربع الأول في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، حيث تتضح الهوية لكل طرف، بعيدًا عن أي تشويه إعلامي أو تسييس متعمَّد. "فالرواية الرواية ليست مجرد عمل أدبي، بل محاولة وعي تاريخي وإعادة تعريف للصراع، عبر تفكيك روايات التزييف والتضليل التي شابت العقود الأخيرة، والعودة إلى اللحظة الأولى التي تَشكّلت فيها الهوية الفلسطينية في مواجهة مشروع الاقتلاع الصهيوني.
وقال سرسك إن الرواية "الصائل"، قامت لى ثلاثة محاور رئيسية شكّلت العمود الفقري للسرد، ووفّرت إطارًا تاريخيًا وسياسيًا وثقافيًا لفهم التحوّلات الكبرى في فلسطين والمنطقة: "الأحداث الجارية والمؤثرات المباشرة على المجتمع الفلسطيني: تناولت الرواية بعمق بواكير المواجهة الفلسطينية للخطة الاستعمارية التي تحالفت فيها القوى الإمبريالية الغربية مع الحركة الصهيونية، كاشفة كيف بدأت ملامح الخطر تتشكل مبكرًا، ليس فقط عسكريًا، بل عبر التسلل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
المشكلات الاقتصادية والنزاعات الداخلية للدولة العثمانية: عالجت الرواية أزمة الدولة العثمانية في أطوارها الأخيرة، حيث واجهت ضغوطًا اقتصادية متزايدة، وتحديات سياسية داخلية وخارجية، وسط تآكل إداري وتشظٍّ في البُنى الاجتماعية. هذا السياق العثماني المنهك وفّر البيئة المناسبة لتغلغل المشروع الاستيطاني في فلسطين.
المشكلة الأوروبية المتعلقة بالوجود اليهودي في أوروبا: قدّمت الرواية استعراضًا تاريخيًا دقيقًا للعلاقة بين اليهود وأوروبا، وهي علاقة شابها التوتر، والاضطهاد، وأحيانًا العنف الدموي. وقد وظّف المؤلف هذا البُعد ليُبيّن كيف تمّ تصدير "المشكلة اليهودية" من أوروبا إلى فلسطين، باعتبارها "أرضًا بديلة"، لتتحول لاحقًا إلى مشكلة استعمارية–وجودية للفلسطينيين.