عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Oct-2025

لا نملك ترف الوقت*سائد كراجة

 الغد

خطاب العرش كان دعوة لمؤسسات الدولة لقراءة ذاتية في مرآة واقعها، حيث يبدأ الخطاب من مقام القلق، لكنه قلقٌ نابع من المسؤولية أمام الله والوطن، لا من خوفٍ من تحديات، فالأردن، كما وصفه جلالة الملك، نشأ وسط الأزمات واكتسب منها الصلابة والقدرة على تحويل التحديات إلى قوة ومنعة. فالدول لا تُقاس بما تمتلكه من موارد، بل بمدى قدرتها على استثمار القليل لتحقيق الممكن وبناء المستقبل. 
 
 
وعندما يشير الخطاب إلى الشباب، وإلى أن ابن الملك سمو ولي العهد واحدٌ منهم، فالمعنى أعمق من الإشارة الرمزية. إنها دعوة إلى استحضار روح الجندية في معركة الإصلاح؛ فالجميع، من القيادة إلى المواطن، جنود في معركة البناء. يشير ذلك إلى أن الإصلاح ليس عملاً فوقياً، بل هو جهد مشترك يتطلب مشاركة الجميع. كما يُعتبر تنبيهاً لمؤسسات الدولة بأن العنصر البشري الذي تحظى قدراته بالكثير من الثناء لا يزال بعيداً عن دائرة التأثير الحقيقي. فرغم كثرة حديث مؤسسات الدولة عن الشباب، إلا أنها لم تنجح حتى الآن في تحويل هذه الأقوال إلى برامج عملية تتيح لهم المشاركة في صنع القرار وتمكنهم من العمل والإنجاز بفاعلية.
وحين يقول جلالته “لا نملك ترف الوقت”، فالمقصود ليس استعجال الإنجاز بل نقد العقل الإداري الذي يبدّد الزمن في الخطط بدل تنفيذها. فالوقت في الدولة مقياسٌ للكفاءة، ليس للتقويم الزمني فقط. والمشكلة ليست في قلة الموارد، بل في طريقة إدارتها. والتأخير رغم التوجيهات الملكية المتعاقبة مؤشرٌ على خللٍ عضوي في منهج العمل وطرائق الفهم، لا على نقصٍ بالضرورة بالإرادة أو الجهد. الزمن في هذا السياق مرآة تُظهر الفجوة بين القول والفعل، وبين الرؤية والتنفيذ. ولذلك فعبارة “لا نملك ترف الوقت” ليست دعوة للسرعة، بقدر ما هي تحذيرٌ من أن التأخير أصبح عقبة في منهج التنفيذ للعقل قبل أن يكون عجزًا في الأداء.
 ويتميّز هذا الخطاب عن غيره من خطابات العرش بأنه ينتقل من استعراض التزامات الحكومة وبرامجها إلى الدعوة لمراجعة مناهج العمل والإصلاح ذاتها. فالمطلوب ليس خططًا جديدة، بل اكتشاف العطب في إدارة الخطط القائمة. إنها ليست مراجعة للنتائج بل نقدٌ للمنهج الذي ينتجها. الخطاب يضع الحكومة ومؤسسات الدولة كافة أمام سؤالٍ واحد: لماذا تأخرنا في تحقيق الرؤية رغم وضوحها؟ ولماذا بقيت الخطط المتكررة عاجزة عن بلوغ الأثر الملموس؟ الحديث هنا يشمل إصلاح القطاع العام، وإدارة الموارد، والمشاريع الكبرى، والتعليم، والإعلام، والبطالة؛ وكلها تجليات لعقلٍ إداريٍ واحدٍ يكرّر ذاته أكثر مما يجددها. ولهذا يدعو الخطاب إلى وقفة وطنية صادقة تسأل: هل الخلل في نظام الأداء؟ أم في آليات القرار؟ أم في ذهنيات عابرة للحكومات تعيق الإصلاح من الداخل؟
وفي حديثه عن القدس والضفة الغربية، يشير الخطاب إلى الترابط الوثيق بين الإصلاح الداخلي وتعزيز وحماية السيادة الوطنية. ومن يُحسن إدارة مؤسسات دولته يُحسن الدفاع عن قضاياه، لأن السيادة تبدأ من الداخل قبل أن تُختبر على حدود الوطن.
الخطاب في جوهره بمثابة تنبيه ملكي وطنيّ ودعوة لتجديد منهج التفكير قبل تبديل الأدوات. إنه استدعاء ملكي لمراجعة الذات المؤسسية، لا لجلدها، بل لفهم أسباب تأخرها. فالإصلاح لا يبدأ من الخطط، بل من نقد الطريقة التي تُفكّر بها الدولة. والزمن لا ينتظر، فالدولة التي لا تراجع عقلها وإيقاعها ستظل تكرّر ما فعلت وتنتظر نتائج مختلفة، وهذا جنابك التعريفُ المبسّطُ للجمودِ السياسي، لا سمح الله.