الإثارة في الإعلام| م. عبدالفتاح الدرادكة
عمون-
تقوم بعض الوسائل الإعلامية – وخاصة بعض الفضائيات والإذاعات – باستضافة أشخاص يُقدَّمون على أنهم “خبراء” في شؤون مختلفة، لكن الهدف في كثير من الأحيان لا يكون إثراء النقاش العام أو توعية المشاهدين، بل تحقيق غاية واحدة وهي إثارة الرأي العام بأي وسيلة ممكنة. فكلما اشتعل الجدل أكثر، زادت نسب المشاهدة أو الاستماع، وبالتالي ارتفعت فرص الإعلان والدعم المالي.
وللأسف، لا تتردد بعض تلك المحطات في توظيف المعلومة أو تحريفها بطريقة تجعلها أكثر تشويقًا أو صدمةً، حتى لو كانت غير دقيقة أو مبنية على مغالطات واضحة.
والمؤسف أكثر أن عددًا غير قليل من مقدمي البرامج الحوارية لا يمتلكون الكفاءة أو المعرفة الكافية التي تمكّنهم من الوصول إلى الحقيقة، إذ يغلب على بعضهم الطابع الاستعراضي في الحوار، لا البحثي أو المهني. ومن المعلوم أن الإعلامي الصادق هو الذي يلامس الواقع ويعيشه، فينقل قضاياه بعمق وصدق، لا بمجرد انفعالات أو شعارات. فأين نحن اليوم من هذا النموذج المهني الذي يُعلي من شأن الحقيقة لا الإثارة؟
وقد سألتُ أحد الأصدقاء ممن يملكون وسائل إعلامية متعددة عن سبب عزوفه عن إنتاج البرامج الحوارية السياسية والوطنية في محطاته، فأجابني قائلًا:
“لا أريد أن أخوض في معلومات قد تُستغل للمبالغة أو المزايدة على القضايا الوطنية، فالكثير ممن يظهرون في هذه البرامج يسعون إلى تسجيل مواقف إعلامية مزيفة، لا إلى خدمة الوطن. وأنا لا أسمح بأن تُستغل المنابر التي أملكها للمزايدة أو للابتزاز السياسي، حتى لو كان ذلك على حساب العائد التجاري للإعلام.”
إن ما نحتاجه اليوم هو إعلام هادف ومسؤول، يقوم على المصداقية في نقل المعلومة والحياد في التحليل والعرض، لا على الإثارة المفتعلة أو تضخيم الأحداث. فالإعلام الحقيقي هو الذي يعتمد على مصادر موثوقة، ويستعين بمحللين وخبراء ذوي دراية واطلاع، ليقدّم تقييمًا موضوعيًا يُسهم في كشف الأخطاء وتوضيح الحقائق ومساعدة مؤسسات الدولة على تجاوز الثغرات.
ولن يتحقق ذلك إلا من خلال ضبط الأداء الإعلامي ومراقبة مصداقية الوسائل العاملة في هذا المجال، مع محاسبة الجهات التي تتعمد نشر الإثارة السلبية أو التي تستخدم منصاتها لأغراض شخصية أو لابتزاز المسؤولين أو لتحقيق مصالح ضيقة. فحرية الإعلام لا تعني الفوضى، كما أن النقد لا يعني الهدم أو التشويه.
ومن المؤسف أن كثيرًا من وسائل الإعلام مارست هذا النهج في تناولها لقضايا قطاع الطاقة، الذي أتشرف بأن أكون أحد العاملين فيه منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. فقد تعرض هذا القطاع، بما يضمه من كوادر وطنية مؤهلة، إلى حملات تشويه منظمة من خلال مغالطات واجتزاءات للمعلومات، أثّرت سلبًا على سمعته وأداء العاملين فيه، وأضعفت ثقة المواطن بإنجازاته. ومع مرور الوقت، ثبت بطلان تلك الادعاءات وتجلّت الحقائق كما هي، لكن بعد أن نال هذا القطاع والعاملون فيه ما نالهم من إساءة وتشويه وتضليل إعلامي متعمّد.
ولعل من النماذج الراقية التي يمكن أن يُحتذى بها في الأداء الإعلامي ما شهدناه في مقابلة أُجريت على شاشة BBC في ثمانينيات القرن الماضي، حين حاور أحد المذيعين البارزين في بريطانيا – ويدعى برايان وولدن من حزب العمال – رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك مارغريت تاتشر، المعروفة بـ”المرأة الحديدية”، وكانت من حزب المحافظين.
كان الحوار ساخنًا وعميقًا، لأن المذيع امتلك المعلومات الدقيقة والجرأة المهنية، فيما كانت تاتشر ترد بثقة وبأسلوب علمي وتحليلي راقٍ. وقد خرج الحاضرون بانطباعٍ أن رئيسة الوزراء تفوقت على المذيع بإجاباتها، لكنها في الوقت ذاته شكرته على طرحه الموضوعي، وأكدت أن بعض القضايا التي أثارها ستُبحث فورًا لما لها من أهمية.
هكذا تجلت العلاقة التكاملية بين الإعلام والسلطة التنفيذية، حيث يقوم الصحفي بدوره في الرقابة والتساؤل، وتتعامل الحكومة مع النقد بمسؤولية ووعي، لا بعصبية أو نفي.
فأين نحن اليوم من هذا النموذج الحضاري في الحوار والمسؤولية؟
إن الإعلام، حين يفقد توازنه ويغلب عليه هدف الإثارة فقط، يتحول من أداة تنوير إلى وسيلة تشويش وتضليل.
أما حين يلتزم المصداقية والموضوعية، فإنه ينهض بدوره الحقيقي كـ سلطة رابعة تسهم في بناء الدولة، لا في هدم الثقة بين المواطن ومؤسساته.
والله من وراء القصد.