الدستور
ثمّة ما هو أبعد من التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران؛ ما نشهده اليوم ليس مجرد تبادل للضربات أو إعادة ضبط لمعادلات الردع، بل هو تحول جذري في طبيعة الحرب ذاتها. لقد انتقلنا من حروب الجيل الرابع، التي تميزت بصعود الفاعلين من غير الدول واستخدام الفوضى كأداة استراتيجية، إلى طور جديد أكثر تعقيدًا، تُدار فيه المعركة داخل العقول، وتُخاض في ميدان الوعي والسرديات، باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، والهندسة النفسية، والتضليل المعلوماتي.
الحرب الإسرائيلية على إيران، التي باتت تأخذ شكلًا تصاعديًا بعد طوفان الأقصى، تعكس إدراكًا إسرائيليًا راسخًا بأن تفكيك «العدو» لم يعد يحتاج إلى اجتياح أرضي أو قصف شامل، بل إلى اختراق مركّب في بنى الدولة العميقة، في المنظومات العسكرية والدفاعية، ولكن – والأهم – في شرعية النظام وثقة الجمهور. ليس من قبيل المصادفة أن الموساد، خلال السنوات الأخيرة، كثّف جهوده في الداخل الإيراني، عبر دعم شبكات المعارضة، وتفجير منشآت من الداخل، وتنفيذ اغتيالات نوعية بمساعدة «عملاء ظل»، محليين أحيانًا، يعكسون هشاشة قبضة النظام على الداخل.
لقد أصبح للموساد ذراع سيبرانية، تعمل جنبًا إلى جنب مع الأذرع الاستخباراتية الكلاسيكية، قادرة على اختراق منظومات القيادة والتوجيه، وتحييد القيادات العسكرية والعلمية، وتجنيد عملاء داخل الصفوف المتوسطة في مؤسسات الدولة. ما يُنذر به هذا التحول هو أن الجبهات الداخلية نفسها أصبحت ساحات حرب، إذا ما كانت مفككة، يغيب عنها الوعي، وتفتقر إلى الحصانة المجتمعية والثقة الوطنية. لم تعد الحرب الخارجية منفصلة عن الداخل، بل بات المواطن العادي، وموظف الدولة، والصحفي، والمثقف، وسائق التاكسي، جزءًا من شبكة أهداف محتملة، إن لم يكن وعيه محصّنًا، وولاؤه متجذرًا، وثقته بمنظومة دولته صلبة.
الجيل الخامس من الحروب، الذي يُعرّف بأنه جيل «اللا تعريف»، حيث تختلط الحرب النفسية بالمعلوماتية، والتكنولوجية بالعقائدية، أصبح واقعًا يُمارس يوميًا. وفق تقارير عسكرية، أكثر من 60% من الدول الكبرى باتت توظّف الذكاء الاصطناعي في قراراتها الاستراتيجية الدفاعية، بينما تُشير دراسة صادرة عن مركز راند RAND الأميركي أن نحو 70% من الأنظمة الدفاعية المتقدمة في العالم اليوم تحتوي على مكوّن ذكي، سواء في الرصد أو تحليل البيانات أو اتخاذ القرار الهجومي والدفاعي. إسرائيل من بين الدول التي قطعت شوطًا كبيرًا في هذا المجال، وهي تستخدم أنظمة ذكاء اصطناعي هجومية لتحديد الأهداف، وتحليل شبكات التأثير، بل وحتى لصياغة خطاب إعلامي مبرمج يستهدف خصومها نفسيًا ومعنويًا قبل أن تُطلق رصاصة واحدة.
رهان إسرائيل لا يتوقف عند ضرب المنشآت النووية أو مصانع الطائرات المسيّرة، بل يتجه نحو «تفجير النظام الإيراني من الداخل»، عبر نزع الشرعية النفسية، وزرع الشك داخل قواعده الاجتماعية والعقائدية، وتشكيك الحلفاء بدوره وصدقيته. وقد بدأ هذا الرهان يعطي مؤشرات؛ من العراق إلى اليمن، تتراجع ثقة الشركاء الإقليميين بإيران، ويعلو صوت التساؤلات حول معنى العلاقة معها، في ظل شعور متنامٍ بأنهم أدوات مؤقتة لمشروع كبير لم يعد قادرًا على حمايتهم أو تمثيلهم.
لسنا – في الأردن- على خط الاشتباك المباشر، نعم، لكننا نعيش في إقليم تعيد هذه الحرب رسم ملامحه. والأهم من كل ذلك، أن دروس هذه الحرب لا تُقرأ فقط في ساحات المعارك، بل في هشاشة الجبهات الداخلية، في أهمية الرواية الإعلامية الوطنية، في توظيف الذكاء الاصطناعي لأغراض الأمن الوطني، وفي إعادة الاعتبار لمنظومة الثقة بين المواطن والدولة. هذه ليست ترفًا أو خيارًا، بل أصبحت من صلب عقيدة الأمن القومي.
لا يمكن لأي دولة اليوم أن تؤمّن ذاتها دون أن تحصّن مجتمعها، وتعيد صياغة خطابها الإعلامي بلغته ومفرداته وتحدياته، وأن تدخل العصر الرقمي والسيبراني بتقنيات لا فقط لمراقبة العدو، بل لبناء منظومة دفاع شاملة. إننا نشهد الآن انتقال مركز الثقل في الحروب من خطوط الجبهات إلى اللايك والتغريدة ومقاطع الفيديو الموجّهة. الجيوش لم تعد وحدها من تخوض الحرب؛ المواطن العادي أصبح – بوعيه أو بدونه – جزءًا من المعركة.