الدستور
حين تندلع الحروب، لا يكون الدافع دوما هو الدفاع، بل أحيانا الرغبة في تحطيم صورة الآخر داخل نفسه. وهذا ما بدا واضحا حين فتحت إسرائيل النار على إيران قبل أيام. لم تكن الضربة فقط فعلا عسكريا محسوبا، بل كانت خطابا صريحا موجها إلى العمق الإيراني، إلى رمزية النظام، وإلى فكرة الشرعية في عيون شعبه. الصواريخ التي مزقت السماء لم تكن تستهدف منشأة نووية، بل بنية الثقة، تلك التي غذتها طهران في الداخل لعقود.
لم تعد الحرب تدور في أطراف الإقليم أو عبر وكلاء، بل وصلت إلى القلب. لأول مرة منذ الثورة، يجد النظام الإيراني نفسه في مواجهة تهديد مباشر لأرضه، لرموزه، لمراكزه الحساسة. وفي المقابل، تكتشف إسرائيل أن تفوقها الجوي والاستخباراتي لا يحصنها من الصدمة، وأن الرد الإيراني، ولو محدودا، قادر على الوصول إلى عمقها السكاني والاقتصادي.
الضربة الإسرائيلية لم تكن فقط محاولة لوقف التخصيب أو تعطيل البرنامج النووي، بل إرباك متعمد لمعادلة سياسية ونفسية. كأن الصوت الخفي في الغارة يقول: لسنا هنا لتدمير منشأة، بل لزرع الشك، وفتح نافذة على سقوط ممكن. لم يكن نتنياهو يخاطب القيادة، بل الشارع الإيراني، محرضًا إياه على مراجعة الثقة، والرهان، والولاء.
لكن ما حدث أيضا يعكس تحولا أوسع. لم تعد مفاهيم الردع كما كانت. حين تهتز صورة النظام أمام شعبه، تبدأ لحظة انكشاف داخلي تتجاوز أثر القنابل. الرد الإيراني بدا مرتبكا، أما الصمت الدولي فكان أبلغ من أي بيان. كأن العالم يمنح لهذه الحرب فرصة لإعادة تعريف موازين المنطقة.
ويقف خلف كل ذلك، دونالد ترامب. ليس كوسيط، بل كمخرج يبحث عن مشهد أخير يضمن له نهاية مثيرة. يلوح بالمفاتيح، ويقايض الحطام بصفقة. لكنه ينسى أن الشرق الأوسط لا يُبنى بالإخراج السياسي، بل بالدم والمعادلات المعقدة. الحروب هنا لا تنتهي بإرادة فرد، ولا تُطفأ بالتصريحات.
السؤال الآن ليس من انتصر، بل من تغير. من خرج من هذه المواجهة وهو يعيد حساباته، داخليا وخارجيا؟ وهل بات ممكنا بعد اليوم الحديث عن نظام قوي وآخر هش، أم أن الجميع اكتشف هشاشته بصوت الانفجار؟
قد لا تكون هذه المعركة الأكبر، لكنها قد تكون الأهم. لأنها لا تهدم جدرانا فحسب، بل تبني تصورات جديدة عن القوة، والخوف، وحدود الممكن.