الغد-عزيزة علي
"للفن قدرة على مواجهة الظلم، وإيصال رسائل الحقيقة والأمل، عبر رمزية ومفردات بصرية تتخطى حدود الكلمات والمفاهيم اليومية، لتصبح الأعمال الفنية وثائق حية للتاريخ ونوافذ على صمود الإنسان وإبداعه"، هذا ما ركز عليه الفنان والناقد محمد العامري، في تقديم محاضرة بعنوان "الفن والمقاومة: الوثيقة البصرية في مواجهة الاحتلال".
استعرض العامري في المحاضرة التي نظمها مركز "تعلّم وأعلَم للأبحاث والدراسات"، أول من أمس، كيف استعمل الفنانون الفلسطينيون والعرب أعمالهم الفنية للتعبير عن النضال والمقاومة، وتجسيد معاناة الشعوب تحت الظلم والاحتلال، وإبراز الهوية الوطنية والتاريخية.
وقال العامري في المحاضرة التي أدارها الدكتور أحمد ماضي، وأقيمت في مقر رابطة الكتاب الأردنيين "إن التعبير الإنساني في الفن مرتبط بسياق المجتمع، فالمقاومة فعل طبيعي يتخذه المظلوم للدفاع عن وجوده، ولا تكون ممكنة إلا بوجود نقيضها: كالظلم والاحتلال والاعتقال والعنف الاجتماعي وغياب العدالة".
وأضاف المحاضر، أن الفن لم يكن يوما بمنأى عن التحولات، إذ جسد الروح الإنسانية في أعمال كبرى تنتقد السلوكيات غير الإنسانية. ومن ذلك لوحة فرانشيسكو دي غويا "الإعدام رميا بالرصاص" التي كشفت جرائم نابليون خلال احتلاله لإسبانيا، وأظهرت حالة الخوف التي عاشها المُعدَمون من خلال الإضاءة والحركة، لتصبح وثيقة بصرية تدين بونابرت وتستمر في إثارة التعاطف الجماهيري حتى اليوم. وتعرض اللوحة في متحف ديل برادو في مدريد.
وقال العامري "إن كثيرا من الفنانين وقفوا ضد الحرب بوصفها آلة للدمار، وواجهوا الإرهاب الواقع على شعوبهم، ومنهم: إسماعيل شموط، سليمان منصور، نبيل عناني، غازي انعيم، الكويتي سامي محمد، الإنجليزي ماكس ("الإنجليزي القتيل")، والسوري يوسف عبدلكي وغيرهم".
وتحدث المحاضر عن الأعمال التي قدمها إسماعيل شموط، والتي وثقت إرهاب الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين، ولا سيما لوحته "إلى أين" التي تجسد رحلة الشتات القسري ومغادرة الفلسطيني لأرضه.
كما تناول شموط في مجمل أعماله موضوعات التهجير والمقاومة والشهداء، إلى جانب توظيف الفلكلور الفلسطيني بوصفه عنصرا أساسيا في صون الهوية والتراث، مبينا أن لوحة "جمل المحامل" للفنان الفلسطيني سليمان منصور تركت أثرا عميقا، إذ عبرت عن تمسك الفلسطيني بأرضه ووطنه حتى في زمن الشتات، فأصبحت رمزا للمقاومة والصمود.
أما الفنان السوري يوسف عبدلكي، فواجه إرهاب السلطة السياسية بأعماله المنفذة بالأسود والأبيض، مقدما تراجيديا مؤثرة حول التعذيب والسجن ومحنة الإنسان الحر في ظل الأنظمة القمعية.
وأوضح المحاضر أن منحوتات سامي محمد تظهر الإنسان العربي في صراع دائم للعثور على مجال إنساني جديد، معبرا عن حالة القلق والتوتر التي تنتقل مباشرة إلى المتلقي. وتبدو شخصياته وكأنها تعيش تمزقا بين الظلام والنور، قبل أن تتحول إلى مقاومة متجددة تتجه نحو حائط الضوء.
وقال العامري إن المقاومة بالفن تستند إلى أربعة عناصر رئيسية: "طبيعة الفنان، بما في ذلك ثقافته ونفسيته واستعداده للتضحية وإيمانه بقضية المقاومة. طبيعة موضوع المقاومة وخصائصه، سواء تعلق بالنضال ضد الاستعمار أو الاحتلال أو مقاومة الفساد، مع ضرورة التفريق بين نضال المبدع بفنه ونضاله في ساحات القتال. طبيعة الفن نفسه، إذ تختلف قدرة الشعر عن القصة أو الأغنية أو الفنون البصرية في التعبير عن المقاومة. والغاية المرجوة من المقاومة، كطرد المحتل أو مواجهة الفساد أو تصحيح أوضاع سياسية خاطئة".
وبين العامري أن التغيير لم يقتصر على الموضوعات الفنية، بل طالت النكبة أيضا غزارة الإنتاج الثقافي. ويوضح د. بشار شموط، المتخصص في تاريخ الفن السمعي والبصري الفلسطيني، أن تشتت الفلسطينيين وتغير ظروف حياتهم داخل الأراضي المحتلة وخارجها دفعاهم إلى الانشغال بتأمين أساسيات العيش، ما أحدث شرخا ثقافيا أبطأ وتيرة الحركة الفنية الفلسطينية. ورأى أن مأساة الشعب الفلسطيني تفاقمت بعد العام 1967، وزادت معاناة الفنانين نتيجة نزوح كثير منهم، معبرين عن معاناتهم في أماكن تواجدهم. وقد تشكلت تجمعات ثقافية لفنانين فلسطينيين في الأردن ولبنان وغزة والضفة والأراضي المحتلة، تناولت أعمالهم المجازر والاعتداءات والغضب الشعبي، إلى جانب أمل التحرير والعودة.
ولفت إلى أن أساليب التعبير اختلفت بحسب مكان إقامة الفنان؛ إذ لجأ الفنانون في الأراضي المحتلة إلى الرمزية لتجنب بطش الاحتلال، بينما تأثر الفنانون المقيمون في المدن العربية بالفن المحلي، مما انعكس على إنتاجهم الفني.
وقال المحاضر إن الكفاح المسلح كان من أبرز الموضوعات التي تناولها الفن الفلسطيني في السبعينيات والثمانينيات، لكنه تراجع مع بداية التسعينيات بعد توقيع اتفاقية أوسلو، التي أوجدت واقعا فلسطينيا جديدا.
ورأى أن الاتفاق أثر على الفن بدخول مؤسسات أوروبية داعمة، مولت مشاريع فنية ركزت على التراث والحياة الفلسطينية بعيدا عن المقاومة المباشرة.
ونتج عن ذلك نهجان للإنتاج الفني الفلسطيني: "الأول يركز على تعزيز الثقافة والتراث والهوية الوطنية، والثاني يصر على التعبير المباشر عن المقاومة ضد الاحتلال". ومع محدودية الدعم، تصاعد إنتاج النهج الأول على حساب الثاني.
وأشار العامري إلى أنه في بداية الألفينيات، شهد الإنتاج الفني الفلسطيني تشتتا نتيجة تنوع أساليب الإنتاج وغياب التنظيم والأرشفة من الجهات الوطنية، إضافة إلى ظهور مواقع التواصل الاجتماعي كوسيلة نشر فردية ومستقلة للفنان.
وأوضح أن الدراسات الأولية تبرز الإرث الفلسطيني المرئي والمسموع، نشأته، تشتته، وسبل الحفاظ الرقمي عليه، مع تقديم رؤى مستقبلية لحمايته، مشيرا إلى أن الفريق البحثي واجه تحديات عدة، أبرزها صعوبة الوصول إلى بعض اللوحات المقتناة والأعمال المغمورة التي لم توثق أو تؤرشف.
إضافة إلى الأعمال الحديثة التي ربما حجبت عن منصات التواصل الاجتماعي بسبب سياسات النشر والخوارزميات. كما أتلف أو صودر عدد من الأعمال الفلسطينية في مناسبات عدة، مثل هجوم الاحتلال على أحياء القدس الغربية العام 1948، ونهب مبنى دائرة الإعلام والثقافة الفلسطينية العام 1982، ضمن عمليات نهب عشوائية أو ممنهجة.
ويكمن السبب الثاني، بحسب العامري، الذي يجعل الفن قادرا على المقاومة، في أن الأعمال الفنية لا تنقل الأفكار عبر المفاهيم والمصطلحات المتداولة، بل تعبر عن الحقيقة بلغة شعرية وفنية، ما يخلق مسافة بينها وبين الأيديولوجيا والمفاهيم اليومية المقبولة من دون فحص نقدي.