القدس العربي -
مهرجان الشعر العربي الثاني في الرقة:
الرقة:- احتفت مدينة الرقة الي الشمال والشرق من سورية، بالدورة الثانية من مهرجان الشعر العربي، دورة الشاعر الراحل فيصل البليبل، كاعتراف من المدينة بأهمية هذا الشاعر وأهمية نتاجه، الذي هو اعتراف بأهمية الأدب والفكر في حياتنا اليومية واعتراف بعظمة المبدعين وضرورة الاحتفاء بآثارهم الخالدة، كما قال السيد حمود الموسي مدير ثقافة الرقة في تقديمه لهذا المهرجان.
وقد سبق للشاعر فيصل البليبل أن عرف نفسه في احدي اللقاءات الصحفية قائلاً ولدت علي ضفاف الفرات عام 1919، ومت علي ضفاف بردي عام 1967 ولم أُدفن بعد . اذ تأخر دفنه حتي وافته المنية عام 1984.
وفي تعريفه السابق لنفسه نلمس أثر النكبة في أعماق الشاعر، بل أعماق جيل بكامله اذ فرضت عليه الأحداث أن يكون وطنياً وقومياً، وليس مصادفة أنه غادر الي دمشق عام 1948 وهو عام النكبة وضياع فلسطين، رغم أن فيصل البليبل رفض التأطيرات التنظيمية والأيديولوجية. وقد انعكس ذلك في مواقفه وفي شعره اذ يقول:
أنا دمشق دمي في كل رابية
من أرض أندلس حتي خرسان
أنا الشآم ولولا الشام ما سطعت
شمس العروبة في مصر وبغدان
واذا كان الشاعر قد مارس مهنة التعليم في مدينة دمشق، فانه كان مؤسس أول منتدي أدبي فيها، وكان أول رقي (نسبة الي مدينة الرقة) انتسب الي اتحاد الكتاب العرب، كما كان صاحب أول منتدي أدبي في الرقة، بعد عودته الأولي من دمشق عام 1981، لكن عودته الأخيرة اليها لم تتأخر أيضاً، حيث توفي في دمشق ونقل جثمانه الي مدينته الرقة ودفن فيها.
للشاعر الراحل ديوانان مطبوعان من الشعر، الأول: وافيصلاه، والثاني: قصائد مزقها عبد الناصر، كما توجد من آثاره العديد من المخطوطات الشعرية التي تنتظر الطباعة منها: تأملات، اني معلم، أهل حزيران، وقد كرست ثقافة الرقة تقليداً مهماً، أن تطبع ديوان الشاعر المكرم وهو جزء من الوفاء له والتقدير لانتاجه.
أما المهرجان الذي ضم لفيفاً متميزاً من شعراء العربية، فقد تباينت التجارب فيه وتباينت الأصوات. فجاء من مصر محمد عفيفي مطر وعبد المنعم رمضان، وجاء من الأردن الشعراء زليخة أبو ريشة وايهاب الشلبي ومحمد ضمرة، ومن العراق عبد المنعم حمندي ومحمد مظلوم، ومن فلسطين المحتلة حضر ماجد أبو غوش وعبد الناصر الصالح.
بينما شارك من سورية الشعراء عبد الكريم الناعم وعادل محمود ووفيق سليطين ورولا حسن وهاجر عمار ولقمان ديركي وانتصار البحري، مع ثلاث تجارب رقية من مدينة الرقة لعبد اللطيف خطاب والدكتور أحمد الحافظ والدكتور باسم القاسم، كما حضر وشارك الشاعر الاسباني خوسيه رامون ريبول كضيف شرف.
ونلاحظ تبايناً بين تجارب حداثية وأخري تقليدية، دون أن يتطابق هذا التقسيم مع حدود التفعيلة أو النثر، فسمعنا لعبد المنعم حمندي من العراق شعراً كلاسيكياً، مع أنه شعر تفعيلة لا ينقصه الا القليل لينتظم في بحور كادت تشاطئه في طبيعة الصورة وأمداء اللغة. فيقول:
كدنا نموت ولم نمت
ولقد ولدنا مرتين من الحروب
لا صوت الا صوتنا
لا ظل الا ظلنا
كذلك الشعر القادم من فلسطين المحتلة، وهو شعر كلاسيكي في المعني والمبني ـ ان صح التعبير ـ يعتمد مفردات جزلة ولغة خطابية لرسم المشهد القادم، الذي نجح في مغازلة مستمعيه منتزعاً التصفيق الحار. يقول ماجد أبو غوش:
والفلسطيني يجوب الصحاري
والموانيء
يقتله العطش
وأرضه حبلي بالماء والنبيذ
وسماؤه مدلاة فاكهة وقمحاً
وهواؤه عليل
فيما يبدو حس المقاومة مستساغاً من جمهور يداري احباطه الي شاعر ينتصر باللغة علي فجيعته، فيسحق أو يكاد اسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، وهو يهدر غاضباً كبركان ثائر، يصرخ في وجوهنا... يصرخ علي تعبنا... يصرخ حتي يمله الصراخ.
في معركة الشعر هذه تبدو التفعيلة حاملاً لايقاعات قوية، توسلها حتي الشعراء الباحثون عن معني وجودي أو صوفي، من زليخة أبو ريشة في قصيدتها صاحب الوقت :
يا صاحب الوقت
الذي ليس أنت صاحبه ليس
وقتاً
الذي ليس أنت علي
سدته
ليس أبيض كثلج علي
سروة
وكلما تفقدت خفتك الطير
فعلي الشعاع يكون
قلبك
لنعلم أنك كنت
تحبنا
أننا نعلم أنك تحبنا
نعلم انك تخفي اعجابك
بنهنهات روحنا
وبكائنا علي العتبات...
الي إيهاب الشلبي القابض علي جمر القصيدة ، وحتي باسم القاسم في هوامشه أو عبد اللطيف خطاب المتكيء علي ابن عربي في بحثه عن سر النوم.
يقول باسم القاسم:
ما الخمر لولا...
رقصة الخلخال في قطر
الشبق...
لا تكثروا ...
شامية هذي
الكروم...
لا تكثروا ...
مستمتع أنا فوق
عرشي ...
فاذا سقطت تناثرت الكراسي
في حدق الحروف
الناعمة ...
والاشارة
نائمة...
في المقابل كان محمد عفيفي مطر يحاول عبر قراءات جميلة تأكيد حداثة القصيدة العربية، رغم اتكائه علي قاموس لغوي بسيط، ومفعم بالحس الفلاحي في كثير من صياغاته، لكنها اللغة المحملة دوماً بشحنات ايحائية تمنحها أفقاً مفتوح الدلالة:
وارتعدت بمشبك التعاشيق النقوش،
وذوب أعضائي استرد كثافة التحديق في الظلمات...
أمي وأمك.. قبل أن يخبو ضرام الفرن أو
يخبو نشيش الزبد من وجه الفطير ولحمه
المرقوق أيقظتا الضحي من خطفة الحلم الصبي
عدوت من وجدي بوجهك للحقول
لملمت من مِزق الضحي رؤياي
ثم عدوت مرتحلاً وراءك من صباي
ولم يفارقني الذهول.
فيما قدم عبد المنعم رمضان قصيدة مبنية من نص سردي، تتوالد فيه اللغة والمعاني حتي يكتمل المشهد، وهو عنده أو عند عادل محمود مشهد الحداثة الشعرية في مواجهة القصيدة الكلاسيكية وفي مواجهة اللغة العصماء وفي مواجهة البني الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة،يقول الشاعر عبد المنعم رمضان في قصيدة العاشق :
ناريمان امرأة حكيمة،تضع الكحل علي عينيها عندما تصحو ولكنها عندما تشاء النوم تضع الحنين، ولأنها لم تزل عذراء فهي تغطي ما بين فخذيها بقماش سميك وصفته لها احدي العرافات .
مع ميل واضح في قصائد النثر المشاركة لالتقاط التفاصيل الصغيرة واللحظات العابرة دون الاهتمام بالقضايا الكبري، وهذا ما لاحظناه عند لقمان ديركي ورولا حسن بشكل جميل، الملاحظة الأخيرة أن أربع مشاركات نسائية في هذا المهرجان شكلن حضورا جميلا لكن دون تميز لأي صوت أنثوي، بمن فيهن زليخة أبو ريشة التي كررت نفسها في قصيدة بعنوان يا صاحب الوقت فيما مضت هاجر عمار وانتصار البحري في تفعيلة افتقدت الألق، وحدها رولا حسن ذهبت مع نثرها في صياغة لقطات قصيرة وخاطفة ووجدانية في الغالب.
تقول في قصيدة تمرين :
أتمرن
علي غيابك:
أرتب السرير
أحمل الي النافذة
الصباح
أجر
براويز الصور خلفي
أرصفة الشارع
ألفت انتباه
الماء للصفصاف
وأفقد الكلام.