الدستور -
صدر عن الاتحاد العام للفنانين التشكيليين السودانيين كتاب يوثق لسيرة الفنان السوداني الراحل ، عمر خيري ، وأعماله ، ويأتي نشر هذا الكتاب من ضمن الجهد المبذول للتعريف بالفن التشكيلي السوداني ، وتوثيقه.
هذا الكتاب ، الذي نشر على نفقة مجموعة (دال) ، وألّفه محمد عبد الرحمن حسن ، يقع في 144 صفحة ، من القطع الكبير ، ويحتوي على 4 صور شخصية للفنان الراحل ، 29و لوحة ملونة ، 63و لوحة جرافيكية.
شكر المؤلف ، في المقدمة التي وضعها ، عائلة الفنان ، وأصدقاءه ومالكي أعماله الفنية ، وكذلك المؤسسات ، عن اهتمامهم ، ومساهمتهم في توفير المعلومات التي قام عليها الكتاب الذي استهدف رسم المسار العام لحياة الفنان الراحل ، وتعيين الأحداث الهامة فيها ، وتوثيق أعماله. ثم قسّم المتن إلى ثلاثة فصول ، اشتمل الأول منها على مقدمة ، وعلى السيرة الباكرة ، وحياة الفنان الراحل الأسرية والمهنية. فبعد المقدمة التي نوه فيها المؤلف إلى دخول الفنان المستشفى ، في عام 1999 ، أشار إلى الأيام التي لزم فيها الفنان سرير المستشفى ، وكان محبو فنه يستمتعون بأكبر عدد من أعماله في مركز شبرين بالخرطوم ، حيث المعرض الذي نظمه الاتحاد العام للفنانين التشكيليين السودانيين في الفترة من 20 آذار حتى 4 نيسان من عام 1999 ، وكان يسعى إلى توفير الدعم للفنان الذي تطلبت حالته عناية طبية مكثفة ، هذا إلى جانب إتاحة الفرصة لمحبي الفن التشكيلي أنْ يستمتعوا بناتج أربعين عاماً من التفرغ للرسم.
كما أشار الكاتب إلى ما كتبه الفرنسي ، ريمي جونير ، عن عمر خيري في عام 1971 ، عندما قال "عسى أن يُعترف ، يوماً ، ما بقيمة إنتاجه ، وأن يجازى جزاءً موفوراً على وجه لا نستطيع أن نتنبأ به ، الآن".
جاء رحيل الفنان عمر ـ كما يذكر الكاتب ـ متزامناً مع آخر يوم من معرضه ، ورغم الهدف الإنساني من المعرض ، فإن بعض من سارعوا إلى حجز عدة من أعمال الفنان ، وحرصوا على تسلمها ، أخذوها من دون أن يسددوا قيمتها. ويبدو أن عمراً لم ينج من أدعياء المعرفة في الفن ، حتى آخر أيامه ، مثلما لم ينج منهم طوال حياته الفنية. وقد استشهد المؤلف بما كتبه جونير ، في أنّ "عدداً كبيراً يستغلونه مستفيدين من طبيعة ظروفه ، وكثيرين يتحدثون عنه وهم لا يعرفون ما طبيعة فنه".
بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى السيرة الباكرة ويقول: "في أواخر العام 1939 ، ولد الابن السابع لأسرة عبد الله خيري وفاطمة الحاج محمد اللذين عاشا مع أبنائهما في منزلهما الذي يقع بحي العباسية ، بمدينة أم درمان ، وهو حي ولد ، ونشأ فيه عدد غير قليل من الذين أسهموا في الحياة الثقافية السودانية ، في أربعينات وخمسينات القرن الماضي".
لم تمتد أيام عبد الله خيري كثيراً بعد ميلاد ابنه عمر ، فتوفي قبل أن تدون ذاكرة الطفل ملامحه ، وعلى ذلك فقد قربت الأم ابنها الصغير كثيراً ساعية إلى سد فراغ الأب ، في حياة الطفل عمر ، الذي قضى سنوات ما قبل المدرسة ، في النصف الأول من الأربعينات التي كانت سنوات الحرب العالمية الثانية ، وسنوات صعود الوعي الجماهيري بقرب تحقق الاستقلال. ومع ظهور التنظيمات السياسية الوطنية ، المعبرة عن قوى المجتمع الحديث ، تلاشت تلك الأزمان والسنوات من ذاكرة الطفل ، من دون أن تخلف أثراً يذكر ، أما الأماكن فعلقت في خبايا الذاكرة لتستعاد ، من بعدُ ، في كثير من اللوحات.
في عام 1947 التحق عمر بمدرسة العباسية الأولية ، وفيها تدرب على الرسم ، والزخارف ، وأعمال الطين ، وأظهر ، لاحقاً ، تميزاً في استخدام الطين لإنجاز أعمال فنية متميزة ، ومن المصادر التي رفدت موهبته الرسومات الإيضاحية ، التي كانت تحفل بها الكتب الدراسية ، والتي تسرب منها ، من بعدُ ، ذلك الطابع التوضيحي للوحاته. وكان لشقيق الراحل ، الفنان عبد العزيز ، الذي يكبره بحوالي أربعة أعوام ، الأثر الأكبر في حياته ، والذي قاده إلى التوجه نحو الرسم ، ورغم أن عمراً ـ في بداية اهتماماته في الرسم ـ قام بتقليد بعض المشاهد التي رسمها شقيقه عبد العزيز ، إلا أنه تميز بقدرته ، وتفضيله رسم البشر ، إلى جانب رسم الحيوانات ، فبدت لوحاته أكثر حيوية واتصالاً بعالم المدينة من تلك اللوحات التي كان ينجزها أخوه عبد العزيز.
في عام 1957 ، قُبًلَ عمر خيري في مدرسة الفنون ، وفي أثناء دراسته انتبه بعض الأساتذة لقدراته المتميزة ، خاصة في الرسم المتخيل ، الذي كان مادة مستقلة. لقد أتاحت مدرسة الفنون لعمر خيري التعرف إلى أساليب وطرائق متنوعة ، في الرسم. وشهد العام التالي نشاطاً واسعاً للفنان ، خارج المدرسة ، حيث استفاد من قدراته على رسم المشاهد المتخيلة في عمل لوحات عدة تمثل مشاهد مختلفة من حياة المدينة ، خاصة تجمعات الاحتفالات والترفيه ، ولقيت أعماله هذه إعجاباً كبيراً ، بالتحديد من الأوربيين الذين كانت تجذبهم المشاهد التسجيلية لأنماط الحياة السودانية. وفي عام 1960 أقام عمر أول معرض له في أحد المراكز الثقافية الأجنبية.
بعد ذلك المعرض لم يعد عمر يستجيب لتوجيهات أساتذته بخصوص التدريبات المقررة: كرسم الطبيعة ، وتقنيات الألوان المائية. حتى إنه قرر التخلي عن الدراسة لأنه كان يأمُل أن يواصل دراسته في إيطاليا ، لكن الأقدار شاءت أن لا يوفق في مسعاه.
بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى حياة الراحل الأسرية والمهنية ، أي إلى الجانب الآخر المهم في حياة الفنان خلال فترة الستينيات من القرن الفائت ، حيث يؤكد إخوته أنه لم يتعرض لأي صدمة ، أو مشكلة ، في حياته الأكاديمية. وتشير الأسرة إلى أن الصدمة الكبرى التي عاناها عمر وقعت بعد تركه الدراسة ، في عام 1963 ، عندما توفيت والدته التي كان على رباط عاطفي وثيق بها.
كانت الأشهر التي تلت وفاة والدته من أكثر الفترات تأثيراً فيه: فقد انقطع عن الرسم ، وانفصل عن كلية الفنون. وبمرور الوقت ، عاد عمر ـ في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي ـ إلى زيارة المراكز الثقافية ، التي كانت تشهد تجمعاً للأجانب ، واستطاع أن يقيم فيها عدداً من المعارض التي سوَّق ، من خلالها ، العديد من اللوحات لقاء مبالغ متواضعة كانت تكفي لتشجيعه على السير في طريق الفن ، من دون أن تعينه على التفرغ له ، تماماً.
تعرف عمر خيري إلى مجموعة من رواد نادي الزوارق ، وعشق المكان ، وأنتج عدداً من الرسومات التي تمثل حشوداً من الزوارق ، منشورة ، أو مطوية الأشرعة ، كما رسم البواخر النيلية ، وبعض صور البحارة ، وأجواء الاحتفالات ، والسهر على أسطح تلك البواخر. وكذلك رسم كثيراً من ملامح الحياة السودانية ، التي شهدها في المدن التي زارها ، مثل: الأسواق ، والمجموعات البشرية ، والحركة الفردية ، والبيئة المعمارية ، وسوق أم درمان.
في بداية النصف الثاني من السبعينيات ، عمل عمر خيري متعاوناً غير ملزم بالحضور ولا بساعات الدوام ، مع المجلس القومي للآداب والفنون. وفي فترة عمله بالمجلس أتيحت له فرصة المشاركة في عدد من المعارض ، والمسابقات الخارجية ، وقد نال عدة من جوائز ، في بعضها.
في سنوات التسعينيات لم تقع أحداث تذكر ، في حياة عمر ، سوى زيارته القاهرة ، في عام 1990 ، أما الحدث الرئيسي المتصل بفنه ، في ذلك العقد ، فهو انضمامه إلى حلقة الحفر ، التي نظمتها الفنانة سكينة قرين ، في عام 1997 ، واستمرت إلى فترة تقرب عاماً.
في أواخر عام 1997 ، عانى عمر مرض السكري ، الذي أعقبته إصابته بسرطان الحلق ، في عام 1998 ، ليفارق الحياة في 12 ـ 4 ـ ,1999
تناول الكاتب في الفصل الثاني آثار عمر خيري المكتوبة ، حيث عرف الفنان بانشغاله بالكتابة ، وكان كثيراً ما يضيف إلى لوحاته عبارات مكتوبة يجعلها جزءاً من الموضوع الممثل. كذلك عرف عنه انشغاله بالشعر ، فقد كتب ثلاث مجموعات تضم محاولاته الشعرية ، بالإضافة إلى ترجمة بعض القصائد من الإنجليزية إلى العربية. ثم إنّ الفنان الراحل خلّف عدداً من الآثار النثرية ، من أهمها: "الوقائع الأساسية في حياة جورج إدوارد أسكونككر" ، وهو الاسم الذي تلقب به عمر طوال سنوات ما بعد الستينيات. ويغلب الظن أنه كتب في فترة متقطعة ، ببن أواخر السبعينيات وحتى عام 1988 ، والدفتر عبارة عن سيرة تعتمد الرسم أساساً ، ويضطلع النص بشرح الأحداث المرسومة ، وتوضيحها.
وتحدث المؤلف في الفصل الثالث عن أعمال الفنان عمر خيري وخصائصها الفنية ، وكذلك عن الخامات ، والتكوين ، والأسلوب ، والعلامات التمثيلية ، والتصميم ، والمخططات الأولية للأعمال. كما أشار المؤلف إلى ما نشر من كتابات حول تجربة عمر خيري التشكيلية ، وذكر أن ما كتب ، أو وثق لحياة الراحل ، وأعماله ، لم يتجاوز التسعة مقالات ، وهو ـ في تقدير الكاتب ـ عدد لا يتناسب مع حجم الأعمال والمعارض التي قدمها الفنان خلال أربعين عاماً.
وطرح المؤلف ، في نهاية كتابه ، أسئلة كثيرة حول سيرة عمر خيري ، ورحلته الفنية ، وأسلوبه ، والمكانة التي اتيحت له في تاريخ الفن السوداني.. وهذه الأسئلة هي بعضّ مما يؤكد استحقاق عمر خيري مزيداً من التقدير والاهتمام ، وبعضّ مما يلفت النظر إلى مطلوبات البحث العلمي ، في مجال الفنون التشكيلية.
كتاب "الفنان عمر خيري: سيرته وأعماله" ، الذي ختم بالسيرة الذاتية للفنان ، وبثبت المصادر ، وخلاصة مختصرة باللغة الإنجليزية ، دُعًّم بنصوص ورسوم تؤكد أهمية الكتاب ، نفسه ، ما يجعل منه وثيقة ومرجعاً مهماً لكل فنان وناقد ودارس.
أخيراً أشكر الفنان أبو بكر ، الأمين العام لاتحاد الفنانين التشكيليين السودانيين ، الذي زود مكتبة رابطة التشكيليين الأردنيين بهذا الكتاب: لأن مكتبتنا التشكيلية الأردنية تفتقر إلى الكتب التشكيلية التي توثق ، وتتناول التجارب الفنية في السودان.
ghaziinaim@yahoo.com