العرب اليوم -
الزرقاء- العرب اليوم-
قالوا في الكتاب أنه لافضل لك أن تزخر مكتبتك بالكتب من أن تكنز محفظتك بالنقود , ومما قاله بعض الادباء عن الكتاب ان وعظ أسمع وان ألهى أمتع وان أبكى أدمع وأن ضرب أوجع يفيدك ولا يستفيد منك, من هنا يرى أصحاب المكتبات الثقافية القديمة أن الكتب التي يبيعونها هي التي تؤسس ثقافة حقيقية غير مقتصرة على اللغات والاستهلاك. هم يفرّقون بين عملهم وعمل غيرهم من بائعي الكتب بهدف الربح والتجارة, و يرون أن الكتب تشكل نبض الحياة الثقافية لابناء المجتمع.
يقول زياد عودة صاحب أقدم مكتبة ثقافية بالزرقاء أن أندر من الكتاب الجيد القارئ الجيد, ويقول أيضا تأبطت الكتاب وغبت فيه .. فما أحلى الرحيل مع الكتاب من هنا بدأت فكرة انشاء مكتبة ثقافية بالزرقاء تراود ضيفنا بشكل مبكر قبل افتتاحها في عام .1971
الهدف من هذا المشروع كان تثقيفيا واستمرارية لمتابعة الكتب الجديدة والدوريات سيما وأن زياد عودة يعتبر نفسة قارئا جيدا حيث كان في المرحلة الابتدائية يدخر مصروفه اليومي لشراء الجرائد التي كانت تصدر أيام زمان.
المكتبة الثقافية في الزرقاء, أو لنذكرها باسم صاحبها العالق دائما في أذهان مرتاديها مكتبة زياد عودة الثقافية, مكان لا يمكن أن يغادر الذاكرة, فالمكتبة ليست مجرد وجود تجاري لبيع الكتب والقرطاسية, أو لقراءة جريدة وتصوير وثيقة بل هي فوق هذا كله موقع ثقافي له جذوره الضاربة في أعماق الماضي الممتدة عبر مساحات من الذكرى لواقع ثقافي يحكي قصة خمسة وثلاثين عاما من الزمن.
هذه المكتبة المتكئة على أحد أسوار معلم تراثي وتاريخي من معالم المدينة الزرقاوية هو (قصر شبيب) كانت وما تزال المسرح الخلفي لاولى الثقافات ولاولى القصائد ولاولى القصص التي أبدعها كتاب هذه المدينة حينما كانت تجمعهم مع بعضهم بعضا وحدة الفكر ووحدة الهدف ووحدة المصير فلا يجدون مكانا للحوار أو للنقاش حول ما يكتبون وما تمتلئ به صفحات أوراقهم سوى مكتبة زياد عودة فهي المكان الذي يملأون فيه بعض فراغهم العلمي والادبي والثقافي يتجمعون بشكل حلقات داخل المكتبة تتسع وتضيق حسب استقطاب اللحظة الثقافية السائدة.
زياد عودة أسس نواة للحركة الثقافية في الزرقاء وكانت مكتبته زاخرة بالكتب الادبية والعلمية وجميع حقول المعرفة البشرية, نهل من ديدن رفوفها وأروقتها الكتاب والشعراء والمثقفون والحزبيون والإعلاميون فكانت المكتبة زادهم في حلهم وترحالهم, ورغم قسوة المرض التي استفحلت بجسد ضيفنا ومثقفنا الا أن ذاكرته ما زالت تحتفظ بالعديد من رواد المكتبة فهو يتذكر جيدا فخري قعوار وبدر عبد الحق ومحمد ابراهيم لافي, احمد المصلح, مصطفى الفار, طلعت شناعة, والشعراء المرحومين الياس جريس ومحمد الخطيب, والشاعر محمد سمحان, الشاعر محمد ضمرة والقاص يوسف ضمرة, والمرحوم القاص عدنان علي خالد, عبد الرحيم عمر, وعبد الرحيم بدر ويتذكر عودة الفنانين من رواد المكتبة منهم محمد الزواهرة, حابس حسين, أشرف أباظة ومازن عجاوي.
يتوقف زياد عودة عن شرب قهوته ويدخل إلى مكتبته أو مستودعه الثقافي كما بات يسميه ويمد قدميه على كرسي زان قديم بعد أن اصابهما المرض الناجم عن مرض السكري ويمسك بباكورته التي يتكئ عليها بعد فقدان البصر أيضا, ويبدأ الحديث بكثير من الشغف عن كتبه المتنوعة التي يعيش معها منذ خمسة وثلاثين عاماً. هي مهنته الوحيدة المحببة الى قلبه التي لامست عمله في مجال تأليف الكتب والعمل في بعض الصحف اليومية كمراسل لها في ريعان شبابه لم يمارس غيرها ولا يحب سواها.
في المكتبة الثقافية تتوزع الكتب بطريقة غير منظمة إطلاقاً... تجدها على الرفوف, على الطاولة, على الأرض وحتى في صناديق من الكرتون هنا وهناك. بعضها يعلوه الغبار وبعضها الآخر مُزّقت صفحاته لكن في المقابل تجد أن المكتبة تحتفظ بجميع أعداد المجلات الثقافية العربية فعلى سبيل المثال لا الحصر المكتبة تحتفظ بجميع أعداد ( مجلة العربي ), يأخذ ضيفنا نفساً عميقاً ليمتص غضبه ويكمل: وضع المكتبات القديمة في الاردن وخارجها مزرٍ جداً فليس هناك من يسأل أو يهتم بالوضع الذي آلت إليه مكتباتنا والتي من المفترض أن تشكل ثروة ثقافية لما تحويه من مطبوعات نادرة لم تعد موجودة في الأسواق.
أما سبب هذا التردي الكبير فلا يرده زياد عودة إلى الأوضاع السياسية: السياسة طبعاً لها تأثيرها في كل ميادين الحياة ولكن الأهم هو أن هذا الجيل لا يقرأ. هو جيل متعلّم ولكن غير مثقف, والفرق كبير جداً. يقول بكثير من الحكمة.
يوجّه زياد عودة الكثير من الانتقادات الى المكتبات الكبرى, القديمة منها والجديدة: معظم هذه المكتبات جعلت من الكتاب سلعة لا رسالة, وأصبحت تبيعه لربح المال لا لمساعدة الناس وتثقيفهم. معظم العاملين في المكتبات الكبرى لا يعلمون شيئاً عن الكتب. كل ما يعلمونه هو اللغات فيستعملونها للدلالة على أنهم مثقفون, ولكن الثقافة أمر آخر, الثقافة حياة. ينهي جملته منهكاً من كثرة غضبه.
هذه المرة أيضاً يختلف زياد عودة في تشخيصه للوضع السيئ لهذا النوع من المكتبات: في الماضي كان المثقفون والطلاب يقصدون مكتباتنا للحصول على الكتب المهمة وإن كانت مستعملة, أما اليوم فلا طلاب مثقفين ولا هناك من يقرأ وكأننا نعيش حالة من الفقر الثقافي, إضافة إلى أنه لم تعد للكتب المستعملة القيمة المطلوبة عند قرّاء هذه الأيام, وهو أمر محزن, إذ إن ثقافة كل قارئ مفترض أن تبنى على هذا النوع من الكتب.
يصمت قليلاً وينتبه الى الصحيفة الموضوعة أمامه فينطلق في الحديث عن الإعلام ودوره في هذا المجال: لا برامج ثقافية عندنا في الاردن لترشد المواطن إلى أهمية الكتاب حتى ان الادارات الصحفية معظمها شيع جثمان الملحق الثقافي الاسبوعي بحجة تكلفته الورقية على الصحيفة, فالصحيفة تعتبر الكتاب منافساً لها ولا تريد التشجيع على القراءة, وغالبية الصحف تفضّل أن تتحدّث عن المواضيع التي تزيد من أرباحها مثل الاعلانات بدل الحديث عن المطالعة والمكتبات القيمة الموجودة في الاردن وخارجها. يأخذ نفساً عميقاً ليكمل حديثه: أما التلفزيون والفضائيات والانترنت فهو أساس البلاء وموطن الداء إذ إنه خدّر عقل البشر لكي لا يفكروا, وأصبحنا نعيش حالة من الفراغ الفكري الثقافي.
وعن سيرته حدثنا زياد عودة انه صاحب فكرة ولادة نادي اسرة القلم بالزرقاء وسبق له ان عمل مديرا لهذا المعلم الثقافي عدة مرات, كما كان من المطالبين والمقاومين ثقافيا حتى كانت الموافقة لتأسيس رابطة للكتاب الاردنيين فرع الزرقاء وهو يعمل حاليا رئيسا لها, له مؤلفات متعددة وصل عددها حوالي سبعة عشر كتابا مطبوعا كان آخرها نجوم في سماء فلسطين (ثائران من جبل النار), وعنده حوالي ثلاثين كتابا مخطوطا.
غادرنا المكتبة الثقافية بالزرقاء وألق المكان وعصب الذاكرة والمرجعية الثقافية ما زالت تشدنا الى بريق الماضي ودفء الحاضر ومكتبة زياد عودة دائما ستبقى مقترنة بذاكرة الوعي الاتي وبالحنين العاطفي والوجداني لتجارب وخبرات ثقافية وأدبية وقصصية مطمورة في ثنايا الماضي ويبقى هذا المكان المحدود مركزا ثقافيا منيرا تشكلت على جدرانه خيوط الذاكرة الثقافية الزرقاوية.