Saturday 23rd of November 2024
 

عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 

مواقع التواصل الاجتماعي

 
 
  • التاريخ
    03-Aug-2007

وللمارد وجه جميل .. الكتابة سبيلاً للشفاء ..

الرأي - تأخذك التونسية آمال مختار في مجموعتها القصصية وللمارد وجه جميل في أجواء تنحو نحو الغموض والغرابة، وتركّز في نهايات قصصها على عناصر المفاجأة والإدهاش واعتماد المفارفة والفانتازيا. وقد تكون هذه المعالم مما يقرّب القصة من الشعر، لكن الاكتفاء بها يظل موضع تساؤل في الكتابة السردية التي تقتضي عناصر معينة يصعب على المدخل الشعري وحده أن يفي بها، ومع ذلك فإن هذا الملمح الابتدائي لا يخص قصص مختار وحدها، بل هو أحد الخصائص الكبرى للسرد الجديد في تماهيه مع اللغة الشعرية وأجواء الغموض والإيحاء الأقرب لطبيعة الشعر وليس السرد.

ويمكن القول إن هذه القصص في مجموعها تظل أقرب إلى النصوص التي يختلط فيها الشعر بالسرد، منها إلى القصص ذات المعالم السردية الواضحة.

تتألف المجموعة القصصية الصادرة عن دار سحر التونسية (2004)، من إحدى وعشرين قصة، تتراوح أطوالها بين صفحة واحدة وبضع صفحات، عدا القصة الأخيرة التي جاءت في ست عشرة صفحة. ورغم الاختلاف الظاهري في مجمل القصص إلا أن جوهرها يكاد يكون تنويعاً على مسائل محددة، فهي تأتلف في شكواها من الموت، والعزلة، والغربة والخيبة والأحزان، وما أشبه ذلك من مداخل ومؤثرات عاطفية وجدانية لا يتكشف كثيراً مرجعها الواقعي أو جذرها الاجتماعي كما هو مألوف في الفنون السردية.

وهي بذلك تبدو ميّالة إلى إبراز صوت الذات/ الأنا، صوت الكاتبة/ الراوية، وهو غالباً صوت مفرد غنائي لا يسمح لأصوات أخرى بمزاحمته أو مشاركته في شكواه وسيادته المتألمة، مما يقلل من فرصة وضوح شخوص قصصية أخرى، وهي التي لا تظهر إلا لتبرز حالة الأنا الراوية، وتساعدها على تأجيج شكواها ومحاولتها الشفاء من الألم. وإذا كان مبدأ التطهير الأرسطي الشهير قد يخطر في بال القارئ هنا، فإن هذا المبدأ بصيغته الأرسطية ينتج عن معاينة العالم الخارجي لا العالم الجواني للذات، وهو ما تجنبته قصص مختار لتسلك السبيل الذي سلكه سائر الإنتاج النسوي الجديد.

بدءاً من تصدير المجموعة ب أكتب لأُشفى تتبدّى إشكالية الكتابة عند آمال مختار وغائيتها، فالكتابة عندها سبيل للشفاء، وبالتالي فإنها ستكون مساحة للبوح وللكلام وللتعبير عما يعتمل في ذاكرة الأنثى ووجدانها ومحيطها. تنطلق الكتابة من الذات (أكتب) ولا تبتعد عنها كثيراً لأنها تظل مرهونة بغايتها (لأشفى). إنها لا تكتب مثلاً لتعاين عالماً خارجاً عنها، ولا لتنظر من النافذة وفق الاستعارة الشهيرة لوصف وظيفة القصة، بل تصر على الوظيفة المرآوية الغنائية بما يضمن للكتابة أن تظل في منازل الذات ومَداراتها فلا ترى غير صورتها منعكسة في المرآة، وهي أساساً وظيفة شعرية استعارتها القصة في زمن تذويتها واقترابها الحميم من الشعر بصيغته الغنائية الأشد بعداً عن المداخل السردية.

وسنجد حضور الأنا الأنثى هو الحضور الأساسي في كل القصص عدا قصة وحيدة ربما، هي قصة عطش حملت الأنا المذكر وإن بدت هذه الأنا شبيهة بشكل ما بالأنا الأنثى، حيث تتقاطع معها في هاجس الألم والضعف والخوف والموت والهرب، ومن اللافت أنها النص الذي اقتُطع منه جزء ليوضع على الغلاف الأخير!، وبذا يمكن القول إن المجموعة تنويع على إيقاع دلالي واحد.

تغلب اللغة الشعرية على مجمل القصص، وفي كثير منها تخرج القصص عن مسارها القصصي وعن خط السرد - إن اقتربت منه - لصالح اللغة الشعرية، مما يضيع الحدث في الغالب ويبدّد البنية السردية المتوقعة. تخرج كثير من قصص آمال مختار إذن عن سياج السرد فتنفلت منها العناصر السردية الأصلية مما يحيّد الحكاية ويفقدها طاقاتها وإمكاناتها.

بعض قصص المجموعة جاءت شبيهة بلوحة أو مشهد منزوع من الذاكرة المتخيلة، فقصة جرح عبارة عن مشهدين، أحدهما تجلس فيه البطلة أمام لوحة فتروح مع تأملها في ذاكرة بعيدة، تعود منها لتمسح الغبار عن اللوحة وتعلقها، والمشهد الثاني تجلس فيه وحيدة في شرفة منزلها لتسمع بعد حين صوت سقوط اللوحة وتكسّرها، فكأن هذا الانكسار هو إعلان موت للذاكرة المرتبطة باللوحة لصالح الحاضر والذات الساكنة فيه، والقصة تركز على ذاكرة ترتبط بالاصوات أكثر من ارتباطها بالحدث. وتبنى على اقتطاع أحداث بلا بداية ولا نهاية، يغفل المتلقي سياقها، لكنها تعمد إلى ترك شيء من الدهشة والغرابة.

في قصة عطش ، وهي قصة معاناةٍ لرجل، يبدو في حالة من الضعف والهشاشة، وتأتي على لسان الأنا المذكر وتقدم قصةَ كتابةِ قصةٍ (ميتاقصة) تسرد أحداث قصة يحاول البطل كتابتها، وتتتبّع انفعاله تجاهها، ومعاناة كتابتها/ إنجازها (كأنما تقابل بشكل ما معاناة الواقع)، وتسير بشكل يتم فيه المناوبة بين القصة وكتابتها (ف عطش تأتي بين القصة ذاتها وبين قصة القصة).

في قصة وللمارد وجه جميل ، وهي القصة التي عنونت بها المجموعة، يظهر السرد في أولها بوضوح ثم يجنح (عند الحدث المتعلق بتقديم بطلة القصة محاضرةً عامة) إلى المباشرة والتقرير، رغم جمالية ما تطرحه القصة من فكرة الموت الرحيم، وإشكالية الجرم الذي يوصف به منفّذه، حيث تنتهي القصة بوصف البطلة مجرمة.

ثمن الخلاص هي قصة امرأة ترمّلت بعد عشرين عاماً من زواج ظاهره حياة هانئة وسعيدة ومستقرة، تبدو فيه الزوجة للملأ سيدةَ بيت يكرمها زوجها ويحترمها ويقدرها، وباطنه حياة بائسة، تهان فيها كرامة المرأة الزوجة، وتعذب إنسانياً وجسدياً. وتبدو المرأة في هذه القصة ذات قدرات هائلة على الصبر والتحمل وإظهار ما لا تبطن حتى يحين تخففها من ثقل الزوج المستبدّ عبر موته الطبيعي وغدوّها أرملة تخلّصت من الثقل وأدركتْ معنى الحرية وخفّة الروح.

قصة مزهرية الكريستال تطرح إشكالية العلاقة بين المثال والواقع، بين المحلوم به وبين تجسّد الحلم حقيقة، حيث تتجلّى الحقيقة الغائبة، وتنقشع غيوم الغيب، هي قصة عشق التلميذة لأستاذها، ثم بارتباطها به تنكسر الأحلام الجميلة/ تنكسر المزهرية!! وتختم القصة بتشكيك البطلة بواقع انكسار المزهرية من باب الرغبة بالحياة والتفاؤل بوجود إمكانية لاستمرارها فيها.

في هذه القصة وغيرها يشعر القارئ أن ثمة فجوات في الأحداث لا يمكنه تعبئتها بالبدائل الوصفية أو اللغوية أو التأملية مما يضفي الغموض عليها ويلغي تراتبية الأحداث ومنطقيتها.

ترتكز قصة العكاز الفضي على نوع من الغرائبية التي تحدث في بهو بنك، ملمحة في أبعادها الدلالية إلى تراجع أهمية المال ومعناه في ظل غياب الإنسان العزيز/ غياب الابن، حيث لا راحة للبال ولو توفر المال والجمال وكل الأسباب المادية للحياة.

معظم قصص الحب في المجموعة قصص لا تكتمل ولا يكتمل فيها اللقاء، وكأن الطبيعي أن تقفل حكايا الحب قبل أن تتحقق فرحة الحب ولذّته، إما بجنون العاشق وخروجه عن طوره الطبيعي، وإما برفض القدر له، وإما بالعودة من حلم الحب الجميل إلى الواقع الفعلي للحياة...، وكأن من غير الطبيعي أن تتتوج قصة الحب بنهاية سعيدة.

فمن القصص التي يبدو فيها خيار من هذه النهايات الخائبة، قصة الطريق المعطّرة ، إذ ترسم مشهداً لقصة حبّ من طرف واحد يمثّله بائع عطر نحو البنت المارة من الشارع أمامه، تنتهي - لرفضها بالزواج منه - بجنونه وسكبه العطر في الشوارع.

وفي قصة الموعد ، رسالة تحمل حبّاً كبيراً من رجل لامرأة وترسم موعداً معها، تحلم الحبيبة بالموعد، وتفرح به، إلاّ أن اللقاء المرقوب، المحلوم به، يُقضى عليه، ويكون القدر له بالمرصاد، إذ كان يتهيّأ لسحب الكرسيّ والجلوس. عندما سمعت أزيزاً في السماء. رفعت نظرات الفضول، فإذا سقف المقهى المتحرك يتقدّم بجزأيه ليلتقيا فيتعانقان وينغلقان على الحكاية (ص 54).

قصة هي والشاعر والقبر قصة أخرى من قصص الحب المحبطة، حيث الأنثى تحب الشاعر وتصدم في أنه رجل/ إنسان مثل باقي البشر، يكره ويحب ويلبس البيجاما، ويأكل وينام، ويشخر، وليس إلهاً كما رسمته في داخلها، إنها ذات القضية التي تتصل بحب الصورة التي يرسمها المحبّ لحبيبه وليست له في واقع حاله، حيث تنتهي معظم هذه القصص بالفشل عند اصطدام الحلم بالواقع.

قصة هل هي الأخيرة حقاً تكرار تجارب حب فاشلة، في كل مرة تظن أنها التجربة الأخيرة، غير أنها تدرك غير ذلك، في استمرارية لمحاولات البحث عن حب قادر على تعبئة الشاغر من القلب.

البحر يقرأ الفنجان قصة الوحدة وانقلاب الحال وتقلّبه، والعيش في الماضي حيث لا مستقبل، وحيث حالة من التحسّر والانكماش على الذات.

وإن كانت المجموعة تنتمي عموماً إلى الكتابة النسوية - إن ذهبنا مع بعض المفاهيم التي ترى بأن الكتابة النسوية هي التي تكتبها امرأة - غير أن الأمر يتضح بشكل جليّ في قصة شامة - التي تذهب في موضوعها إلى خصوصيات تجربة المرأة فيما يتصل بالحمل والإنجاب، وما يتصل بذلك من تعالقات اجتماعية - فتقوم على فكرة ولادة الأنثى التي تقابل ولادة المصيبة/ المسخ/ اللعنة، حيث لا تُطْلَق الزغرودة المصاحبة عادة بإعلان إنجاب المولود الذكر (نكسة الولادة المضافة إلى وجع الولادة ذاتها، حين تكون المولودة بنتاً، وارتباطها باللعنة والوأد).

في متن بعض قصص آمال مختار يتوزع الحوار بين الأنا الساردة وبين المُخاطَب، ففي قصة الغليون على سبيل المثال - وهي قصة قصيرة جداً - جاء الحوار بوصفه ركيزة أساسية في القصة، حيث قامت على حوار بين الشيخ/ الذكر، وبين الأنثى التي تقدم نفسها بوصفها نِدّاً لا أقل له، وتتمثل النديّة بتدخينها الغليون كما يفعل هو، وهي نديّة لا تتحقق للأنثى عبر تفرّدها بسمات أنثوية خاصة مميزة، وإنما بممارسة ذات الفعل الذكوري (حسب القصة)!!، وتنتهي بفعل القتل الذي يتشابه في كل أحواله وأشكاله غير أنه هذه المرة يأتي بلمسة أنثوية متمثّلة في أحمر الشفاه الذي تتركه القاتلة/ الأنثى على الغليون. إنه السعي لقتل المنافِس، قتل الرجال (السلطة/ النظام البطريركي) انتقاماً للنساء. نقرأ في هذه القصة:

عثر البوليس على غليون.

أما أنا فلم أندم...

هذا أكيد.

الأكيد أيضا أنك لا تستحق...

قال لي الشيخ: هل تعرفين حكمة العبث؟

أجبته: لقد انتهى الكلام . انتهى تماماً.

قال: أشعلت غليون عبثي، دخّنت ذاكرتي ونفثت الدخان بمتعة. فاحت رائحة عطر نسائي.. نساء .. النساء!

وأنا امرأة، لا! عفواً! أنا أنثى تدخّن الغليون مثلك ولا ترصّ تبغاً في الغليون.

ألم أقل إن الكلام قد انتهى؟.

لماذا تحبّ اجترار فعل لم يعد ينضح بالمتعة؟

غادر الشيخ الحان.

في الصباح أفاق الناس على هرج ومرج.

كان الحان مزدحماً بجثث الرجال.

عثر البوليس على غليون ملطّخ بأحمر الشفاه (القصة، ص 8).

المرأة في هذه القصة تقتل الذكر، وإن كانت في قرارتها تؤمن بدوره الأساسي في حياتها، فهي تقتله، وهي متأكدة أنه لا يستحق . هي تسعى لإعلان ذاتها وإعلاء قيمة وجودها بالاتجاه لفعل ما، لا البقاء في زاوية ردود الفعل، والاكتفاء بالتعليق، بالكلام (لقد انتهى الكلام. انتهى تماماً) كما تقول في القصة، ستحاول التحرك في منطقة العبث، علّها تتخلّص تماماً من ذاكرة ينهشها الذكر، ويلعب فيها دوراً يضعها هي في منطقة الهامش، تودّ أن تلفظ تلك الذاكرة وتؤلِّف ذاكرةً خاصة بها ترسمها كما يحلو لها.

في قصص آمال مختار المشار إليها سابقاً وفي غيرها من المجموعة نفسها عوالم ترصد العلاقة الإشكالية بين المرأة والرجل، فتقف عند صلف الرجال والأزواج والمنافسة بين الجنسين (الذكر والأنثى) وخيبات الحبّ المتكررة، لاجئة إلى حلول فانتازية، أو لغة شعرية تأملية وجدانية، تحضر الذات فيها بوصفها مركز العالم، وتنهل من الذاكرة ومن الواقع، مؤلفة بين ثنائية الصوت والصمت في مجموعة هي أقرب إلى النصوص - كما تقدم - منها إلى القصص.

وآمال مختار كاتبة صحفية تونسية، تعمل بالقسم الثقافي في صحيفة الصحافة ، صدر لها: نخب الحياة (رواية، دار الآداب، بيروت، 1993)، الكرسي الهزّاز (رواية، دار سراس، تونس، 2003)، لا تعشقي هذا الرجل (قصص، دار سحر، تونس، 2004).